"مذبحة بَرْبَشتر": عندما قتل النّورمان 50 ألفا من المسلمين العُزَّل
أخبار إسبانيا بالعربي – إن من أعظم محن المسلمين في الأندلس -إن لم تكن أعظمها- ما حدث للمسلمين في بربشتر Barbastro، إذ كان الخطب بها أكبر من أن يوصف، حيث هاجم النورمانديون المدينة سنة (456هـ/ 1064م) وفتكوا بأهلها، وأبادوا المسلمين بأبشع صور الإبادة في التاريخ.
مدينة بربشتر
تقع بَرْبُشْتَر Barbastro على بعد 60 كم شمال سرقسطة (الثغر الأعلى في بلاد الأندلس)، على فرع صغير من أفرع نهر إبره بين مدينتي لاردة ووشقة، وبربشتر إحدى القواعد الأندلسية المنيعة، وأمنع قلاع الأندلس قاطبة، وكانت ذات موقع إستراتيجي هام لقربها من الحدود مع الممالك الإسبانية النصرانية في شمال شرق الأندلس وهي ممالك قطلونية ونافار أو نبرة وقشتالة، لذلك فهي في جهاد دائم؛ إذ لم يَكُفُّ النصارى عن هجماتهم على بلاد الإسلام في الأندلس منذ الفتح الإسلامي لها أيام موسى بن نصير وطارق بن زياد.
وصفها الحميري بقوله: “بربشتر من أمهات مدن الثغر الفائقة في الحصانة والامتناع”. وقال ياقوت الحموي: “بَرْبُشْتَرُ بضم الباء الثانية، وسكون الشين المعجمة، وفتح التاء المثناة من فوق: مدينة عظيمة في شرقي الأندلس من أعمال بربطانية..، ولها حصون كثيرة، منها حصن القصر وحصن الباكة وحصن قصر مينوقش وغير ذلك”.
ومدينة بربشتر إحدى أعمال مملكة سرقسطة التي كانت في عصر ملوك الطوائف تحت حكم بنوهود (431هـ / سبتمبر 1039م – 512هـ /ديسمبر 1118م) والتي تعد مملكتهم من أهمِّ وأخطر الممالك الإسلامية في بلاد الأندلس؛، ومن أعمالها وَشْقَة Huesca، ولاردة Lareda.
الحملة الصليبية على بربشتر
تمثل مأساة بربشتر امتداد لسلسلة الحروب الصليبية التي بدأها الغرب الصليبي ضد المسلمين في بلاد المغرب والأندلس قبل بدأ الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي.
ذلك أن حملة كبيرة من النورمانيين (أو الأردمانيين في الرواية العربية) تقدرها الرواية بعشرة آلاف فارس، بقيادة جيوم دي مونري، نزلت بشاطىء قطلونية وسارت نحو الشرق مخترقة أراضي مملكة سرقسطة الشمالية. وقد اختلفت الرواية في تكييف ظروف هذه الحملة وفي مصدر قدومها، وفيمن نظمها وقادها.
بيد أنه يستخلص من مختلف الروايات الخاصة بها، أنها حشدت في ولاية نورمانديا الفرنسية، حيث كان النورمان قد استقروا بها قبل ذلك العصر بموافقة ملك فرنسا، وأن أولئك النورمان خرجوا عندئذ في طلب المغامرة والكسب ومعهم جموع كبيرة من الفرسان الفرنسيين.
أما قائد الحملة فهو الفارس جيوم دي مونري، وكان من أكابر فرسان عصره، وقائد الجيوش الرومانية والبابوية. أما بواعث قيادته لهذه الحملة، ولماذا قصدت إلى شاطىء قطلونية، فمما يحيط به الغموض، على أنه يبدو من جميع الظروف أنها كانت من الحملات الناهبة التي تستتر بالصفة الصليبية، والتي تقصد العيث والنكاية، والغنم والسبي في أراضي المسلمين أينما كانت.
ويؤيد البحث الحديث هذه الصفة الصليبية للحملة، ويقول لنا إن الذي دفع إلى إعدادها هو البابا اسكندر الثاني، الذي استغل أحداث الأندلس المضطربة، وانشغال حكام المسلمين بالقتال فيما بينهم، وكلَّف الفارس جيوم دي مونري قائد الجيوش البابوية بإعداد حملة صليبية فرنسية إيطالية مشتركة للهجوم على سرقسطة بالأندلس.
والرواية الإسلامية صريحة واضحة في أن هذه الحملة قد قدمت من فرنسا، فهي تقول لنا “إن الفرنج خرجوا من الأرض الكبيرة (أي فرنسا) إلى الأندلس في جموع كبيرة ليس لها حد، ولا يحصى لها عدد إلا الله، وانتشروا على ثغور سرقسطة”، ثم إنه ليس من الواضح أيضاً ما إذا كانت هذه الحملة قد عبرت إلى إسبانيا من طريق جبال البرنيه، أم جازت إلى قطلونية بطريق البحر.
نزل أولئك النورمان في قطلونية واجتازوا إلى أراضي مملكة سرقسطة، إذ كانت تحمي مؤخرتها أرض نصرانية هي مملكة برشلونة، وقصدوا أولا إلى مدينة وشقة إحدى قواعد سرقسطة الرئيسية، فنازلوها أياماً، ولما لم ينالوا منها مأرباً غادروها وساروا شرقاً حتى مدينة بربشتر، وهي لا تقل عن وشقة أهمية وحصانة.
موقف بني هود من الهجوم الصليبي
نزل النورمان مدينة بربشتر وضربوا حولها الحصار، وذلك في أوائل سنة 456هـ / ربيع سنة 1064 م، ولم يبادر أحمد بن هود (المقتدر بن هود) لإنجاد المدينة المحصورة، إذ كانت من أعمال أخيه يوسف المظفر، فكان ذلك منه جبناً ونذالة، أدرك عواقبهما فيما بعد، ولم يستطع يوسف نفسه إنجادها، فتركها لمصيرها. واستمر الحصار أربعين يوماً، والمسلمون صامدون داخل مدينتهم الحصينة، وكانت حاميتها تخرج من آن لآخر، وتخوض مع الأعداء معارك شديدة، ثم ترتد إلى الداخل.
ولما اشتد الضيق بالمدينة المحصورة، وعزت الأقوات، وقع الهرج والتنازع بين أهلها، وعلم النورمان بذلك، فشددوا قبضتهم وضاعفوا جهودهم، واستطاعوا بعد قتال عنيف أن يقتحموا المدينة الخارجية، وذلك في يوم الخميس 26 شعبان 456هـ، وقد دخل الصليبيون المدينة، دخول الضواري الجائعة حيث ارتكبوا واحدة من أفظع المجازر البشرية.
مأساة مسلمي الأندلس في بربشتر
وقد وصف ابن حيان المحنة بكلمات من الدماء لِمَا حلَّ بالمسلمين هناك، يقول بعد أن ذكر تخاذل المقتدر عنها: “فأقام العدوُّ عليها أربعين يومًا، ووقع فيما بين أهلها تنازع في القوت لقلَّتِه، واتصل ذلك بالعدوِّ فشدَّد القتالَ عليها والحصر لها، حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مُدَرَّع، فدهش الناس وتحصَّنوا بالمدينة الداخلة.
وجرت بينهم حروب شديدة، قُتِلَ فيها خمسمائة إفرنجي، ثم اتُّفِقَ أن القناة التي كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سَرَب موزون انهارت وفسدت، ووقعت فيها صخرة عظيمة سَدَّت السَّرَب بأسره، فانقطع الماء عن المدينة، ويئس مَنْ بها من الحياة، فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة دون مال وعيال، فأعطاهم العدوُّ الأمان، فلمَّا خرجوا نكث بهم وغدر. وقُتل الجميع إلا القائد ابن الطويل والقاضي ابن عيسى في نفر من الوجوه.
وحصل للعدوِّ من الأموال والأمتعة ما لا يُحْصَى، حتى إن الذي خصَّ بعضَ مُقَدَّمي العدوِّ لحصنه -وهو قائد خيل رومة- نحو ألف وخمسمائة جارية أبكارًا، ومن أوقار الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل، وقُدِّر مَنْ قُتل وأُسر بمائة ألف نفس، وقيل: خمسون ألف نفس.
ومن نوادر ما جرى على هذه المدينة لَمَّا فسدت القناة وانقطعت المياه أن المرأة كانت تقف على السور وتُنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها أو ولدها، فيقول لها: أعطيني ما معك. فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره”.
ويُكمل ابن حيان قائلاً: “وكان السبب في قتلهم أنه خاف مَنْ يَصِلُ لنجدتهم وشاهد من كثرتهم ما هاله، فشرع في القتل -لعنه الله تعالى- حتى قتل منهم نيِّفًا وستة آلاف قتيل، ثم نادى الملك بتأمين مَنْ بَقِيَ، وأمر أن يخرجوا، فازدحموا في الباب إلى أن مات منهم خلق عظيم، ونزلوا من الأسوار في الحبال للخشية من الازدحام في الأبواب، ومبادرة إلى شرب الماء.
وكان قد تحيَّز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه، وحاروا في نفوسهم، وانتظروا ما ينزل بهم، فلمَّا خلت ممَّنْ أُسر وقُتل وأُخرج من الأبواب والأسوار، وهلك في الزحمة، نُودي في تلك البقية بأن يُبادر كلٌّ منهم إلى داره بأهله وله الأمان، وأُرهقوا وأُزعجوا، فلما حصل كل واحد بمن معه من أهله في منزله، اقتسمهم الإفرنج -لعنهم الله تعالى- بأمر الملك، وأخذ كل واحد دارًا بمن فيها من أهلها، نعوذ بالله تعالى.
وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا برؤوس الجبال، وتحصنوا بمواضع منيعة، وكادوا يهلكون من العطش، فأمَّنهم الملك على نفوسهم، وبرزوا في صور الهلكى من العطش، فأطلق سبيلهم، فبينما هم في الطريق إذ لقيتهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة، فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله.
وكان الفرنج -لعنهم الله تعالى- لما استولوا على أهل المدينة يفتضُّونَ البكر بحضرة أبيها، والثَّيِّب بعين زوجها وأهلها، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان، ومَنْ لم يرضَ منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أو وخش أعطاهن خَوَله وغلمانه يعيثون فيهن عيثه. وبلغ الكَفَرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة.
ولمَّا عزم ملك الروم على القفول إلى بلده تخيَّر من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيبات ذوات الجمال، ومن صبيانهم الحسان ألوفًا عدَّة، حملهم معه ليهديهم إلى مَنْ فوقه، وترك من رابطة خيله ببربشتر ألفًا وخمسمائة، ومن الرجَّالة ألفين .
ولما غادر الغزاة النورمان بربشتر بعد اقتحامها، والفتك بأهلها، والاحتواء على أموالها، تركوا لحمايتها ألفاً وخمسمائة من الفرسان وألفين من الرجالة، وقيل بل تركوا ألف فارس وأربعة آلاف راجل، واستقدموا إليها كثيراً من أهلهم وأقاربهم ومواطنيهم، وساروا عائدين إلى بلادهم، وفي ركبهم ألوف من سبي المسلمين نساء ورجالا، ومقادير هائلة من الأموال والغنائم المختلفة.
ورثاها الفقيه ابن العسال بقصيدة انبرى فيها يهاجم ملوك الطوائف ويصمهم بالجبن والتخاذل:
هَتَكُوا بِخَيْلِهِمُ قُصُورَ حَرِيمِهَــا *** لَمْ يَبْــقَ لا جَبَــلٌ وَلا بَطْحَــــاءُ
جَاسُـوا خِـلالَ دِيَارِهِمْ فَلَهُمْ بِهَا *** فِي كُلِّ يَــوْمٍ غَــــارَةٌ شَعْــــرَاءُ
كَمْ مَوْضِعٍ غَنِمُوهُ لَـمْ يُرْحَـمْ بِهِ *** طِفْــلٌ وَلا شَيْـــخٌ وَلا عَـــذْرَاءُ
وَلَكَـمْ رَضِيــعٍ فَرَّقُــوا مِـنْ أُمِّهِ *** فَلَــهُ إِلَيْهَــا ضِجَّـــةُ وَبُغَـــــــاءُ
وَلــَرُبَّ مَوْلُـودٍ أَبُـوهُ مُجَدَّلٌ *** فَوْقَ التُّرَابِ وَفَرْشُهُ الْبَيْـــــدَاءُ
وَمَصُونَةٍ فِي خِدْرِهَا مَحْجُـوبَـةٍ *** قَـدْ أَبْرَزُوهَــا مَـا لَهَـا اسْتِخْفَاءُ
وَعَزِيزِ قَــــوْمٍ صَارَ فِي أَيْدِيهُمُ *** فَعَلَيْـهِ بَعْــدَ الْعِـــزَّةِ اسْتِخْـــذَاءُ
لَـوْلا ذُنُـوبُ الْمُسْلِمِيــنَ وَأَنَّهُــمْ *** رَكِبُـوا الْكَبَائِــرَ مَـا لَهُــنَّ خَفَاءُ
مَا كَانَ يُنْصَرُ لِلنَّصَارَى فَارِسٌ *** أَبَــدًا عَلَيْهِـــمْ فَالذُّنُــوبُ الــدَّاءُ
فَشِـرَارُهُـمْ لا يَخْتَفُــونَ بِشَرِّهِمْ *** وَصَلاحُ مُنْتَحِلِي الصَّلاحِ رِيَـاءُ
ونحن لَنْ نُعَقِّب على الحادثة بل نترك ابن حيان يُعَقِّب عليها بنفسه؛ لنتبيَّن الأسباب التي أدَّت إلى وقوع تلك الكارثة بالمسلمين، يقول ابن حيان: “قد غَرْبَلَ (زماننا هذا) أهليه أشدَّ غربلة، فسَفْسَفَ أخلاقهم، واجتثَّ أعراقهم، وسفَّه أحلامَهُم، وخبَّثَ ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهلُ، واقتطعهم الزَّيْفُ، وأركستهم الذنوب، ووَصَمَتْهُمُ العيوبُ.
فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معاني الغيِّ بأقوياء، شاءٌ من الناس هامل، يُعَلِّلون نفوسهم بالباطل، من أدلِّ الدلائل على فرط جهلهم بشأنِهِم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعةِ خالقهم، ورفضهم وصيَّةَ رسوله نبيهم، وذهولهم عن النظر في عاقبة أمرهم، وغفلتهم عن سدِّ ثغرهم.
حتى لظلَّ عدوُّهم الساعي لإطفاء نورهم يتبحبحُ عِرَاصَ ديارهم، ويستقرئُ بسائِطَ بقاعهم، يقطعُ كلَّ يومٍ طرَفًا منهم، ويبيدُ أمَّةً، ومَنْ لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صُموتٌ عن ذكرهم، لهاةٌ عن بثِّهم، ما إن يُسْمَعُ عندنا في مسجد من مساجدنا وَمَحفلٍ من محافلنا مذكِّرٌ بهم أو داعٍ لهم، فضلاً عن نافرٍ إليهم أو مواسٍ لهم، حتى كأنْ ليسوا منَّا، أو كأنَّ فتقَهُمْ ليس بمفضٍ إلينا، قد بخلنا عليهم بالدعاء، بُخْلنا بالغَنَاء، عجائبُ مُغْرِبَة فاتتِ التقدير، وعرضت للتغيير، فلله عاقبةُ الأمور، وإليه المصير”.
نجدة مسلمي بربشتر
وصلت أنباء مذبحة بربشتر إلى قرطبة في أوائل رمضان 456هـ، وذاعت في بلاد الأندلس كلها، واهتزت لها القلوب، وتزلزت النفوس، وسادها الاشمئزاز والروع لتلك الفظائع والشناعات التي لم يسمع بمثلها، بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى وقعت المعجزة، وكان صدى النكبة قد نفذ إلى الأعماق، واهتز لها أمراء الأندلس قاطبة، وفي مقدمتهم المقتدر بن هود (أحمد)، وهو الذي شهدها عن كثب، ولحقه من جرائها أكبر وزر، فأسرع المقتدر بن هود وأعلن الجهاد، ونادى بالنفير العامِّ في بلاد الأندلس.
فاجتمع له كثير من المتطوِّعة، وبعث له المعتضد بن عباد خمسمائة فارس من إشبيلية، فسار في جمادى الأولى سنة 457هـ / 1065م، وضربوا الحصار على المدينة، ودارت معركة شرسة مع النصارى مزق فيها النصارى وهلك معظمهم، وأسر من كان بالمدينة من أهلهم وأبنائهم، وقُتل فيها منهم ألف فارس وخمسمائة راجل، ودخل المقتدر بن هود بخمسة آلاف سبية من سبايا النصارى سرقسطة، كما حمل إليها ألف فرس وعدة وسلاح وأموال كثيرة.
وكان استرداد بربشتر في الثامن من جمادى الأولى سنة 457هـ، بعد أن احتلها النصارى تسعة أشهر. وبذلك جبر الصدع، ورفعت المعرة، وأثلجت صدور المسلمين. وعلى أثر هذا الفتح الجليل اتخذ بطله ابن هود لقبه المقتدر بالله.
المصدر: خزانة الأندلس/ إسبانيا بالعربي.