معركة الخندق.. الخليفة الناصر الأموي بين النصر والهزيمة!
“ثم كانت غزوة الخندق ولم يغزُ الناصر بعدها بنفسه. وكان يُردّد الصوائف، وهابته أمم النصرانية، ووفدت عليه سنة ست وثلاثين [وثلاثمئة] رُسل صاحب القسطنطينيّة وهديّته وهو يومئذ قسطنطين (السابع) بن ليون، واحتفل الناصر للقائهم في يوم مشهود”.
(ابن خلدون في إشارته لمعركة الخندق وقوة الناصر الأموي)
يُعدّ الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر أول من تلقّب بالخلافة في الأندلس، وأحد أعظم بني أمية فيها، وأطول ملوك الإسلام عمرًا إذ حكم الأندلس خمسين سنة وستة أشهر كاملة؛ لذا جاء عصره مليئًا بالتفاصيل والحوادث التاريخية على المستويين الداخلي الإصلاحي في الأندلس فضلًا عن الخارجي في مواجهة القوى الصليبية من ليون ونافار في الشمال.
الناصر وحلف الشمال!
هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل. ولد بقرطبة سنة 277هـ وتوفي بها سنة 350هـ. نشأ يتيمًا؛ إذ قُتل أبوه وعمره 21 يومًا فربّاه جدّه، وبويع بعد وفاة جده سنة 300هـ، فكان أول مبايعيه بإمارة الأندلس أعمامه؛ لحبّ جده له.
في عصره ظهر له ضعف الخليفة المقتدر العباسي في العراق، فجمع الناس وخطب فيهم، ذاكرًا حق بني أمية بالخلافة، وأنهم أسبق إليها من بني العباس. فبايعوه بها سنة 316هـ وتلقّب الناصر لدين الله فجرى ذلك فيمن بعده. وكان أسلافه يسمون بني الخلائف، ويخطب لهم بالإمارة فقط؛ لذا أثنى المؤرخون عليه، ووصفوه بالقوة واليقظة والحنكة، قال ابن الأبار في وصفه: “أعظم بني أمية بالمغرب سلطانًا، وأفخمهم في القديم والحديث شانًا، وأطولهم في الخلافة بل أطول ملوك الإسلام قبله مدة وزمانًا”.
تولى الناصر حكم الأندلس وآثار الفتن والثورات على أجداده بادية في أصقاع الأندلس المختلفة؛ لذا لم يكد يستقر في حكم البلاد حتى بدأ بُعيد ذلك في إخراج الجيوش والحملات للقضاء على المناوئين والخارجين على الدولة في مناطق الأندلس المختلفة مثل قلعة رباح وببشتر وبلنسية وبنبلونة ومناطق الغرب وغيرها.
في مقابل ذلك، وفي تلك الفترة التي اضطرمت فيها الأندلس بالفتن، وشُغلت قرطبة بأمر الثورة في النواحي، كانت إسبانيا النصرانية في الشمال تسير قدمًا صوب القوة والتوطد، وتعمل جاهدة لانتهاز كل فرصة للكيد من الأندلس، وتعضيد الخارجين على قرطبة والناصر، إسبانيا هذه التي كانت تتكون حينذاك من مملكتين هما ليون (جلِّيقية)، ومملكة نافار (بلاد البشكنش)، وكانت ليون -وهي الواقعة في الشمال الغربي بين المحيط ونهر دويرة- أكبر المملكتين وأوفرهما قوة ومنعة، ومن ثم كانت تتولى قيادة إسبانيا في ميدان الكفاح والاسترداد؛ ذلك أن قواعد الأندلس الإسلامية الشمالية التي تُتاخم تلك المملكة مثل أسترقة وسمّورة وشلمنقة وشقّوبية وميراندة قد خلت منذ أواخر القرن الثامن الميلادي من معظم سكانها المسلمين، واستوحش العرب لقلّتهم في تلك الأنحاء، وكثر اعتداء الصليبيين عليهم.
كان من جملة الناقمين على حكم الناصر حاكم سرقسطة القريبة من المعاقل الإسبانية شمالًا؛ محمد بن هاشم التجيبي، وكان يحكم قلعة أيوب قريبه مطرّف بن مندف التجيبي، وكلهم من بني هاشم، كان ملك ليون آنذاك راميرو الثاني قد بدأ في سياسة الصدام والتوسّع، الأمر الذي قابله الناصر بالمجابهة والمقاومة، وقد التقت مصالح راميرو ومصالح التجيبيين معًا في مناوئة الناصر، فتم عقد اتفاق سرّي بين الطرفين على أساس اعتراف حاكم سرقسطة محمد بن هاشم التجيبي بالولاء لحاكم ليون مقابل دعم هذا لاستقلال سرقُسطة.
وظهرت آثار هذا التحالف سنة 323هـ/934م حينما كان عبد الرحمن الناصر يزحف بقواته لتدمير مملكة ليون، حيث أعلن التجيبيون تمردهم ضد قرطبة ودعمهم لملك ليون راميروا، ونجح جيش ليون في دعم التجيبيين الذين راحوا يتوسّعون بضم بعض المواقع والحصون إلى سرقسطة، وتطور هذا الحلف عندما انضمت إليه طوطة ملكة نافار البشكنش وهكذا توحد الشمال كله ضد قرطبة وكان تحالفًا قويًا يشكّل خطورة كبرى ضد الخليفة عبد الرحمن الثالث.!
لم يقف عبد الرحمن الناصر موقف المتفرج من هذا الحلف الخطير الذي تشكّل في شمال البلاد، فأسرع بجيشه في سنة 326هـ/937م، وبدأ الناصر فور وصوله بمحاصرة قلعة أيوب التي لم تصمد طويلًا، وأنزل عقوبة الإعدام بقائد القلعة مطرف بن مندف التجيبي، كما قتل معه قادة الدعم الليوني الذي أرسلها راميرو الثاني، ثم تابع جيش قرطبة بقيادة الخليفة الناصر تقدُّمه حتى وصل إلى إقليم ألبا “ألفا” فتمكن من ضم مجموعة من القلاع والتحصينات.
وأخيرا وصل الجيش إلى سرقُسطة، وترك الناصر مهمة الحصار وحُكم المدينة لأحد أقربائه القائد أحمد بن إسحاق، بيد أن ابن إسحاق كان متطلعًا للتعاون مع الفاطميين في المغرب من قبل، وكانت ثمة مراسلات بينهم، ثم استغل فرصة قربه من أعداء الأمويين في الشمال فاتصل براميرو وأبدى تراخيًا في حصار سرقُسطة، الأمر الذي وقف على صحّته الناصر، فأنزل من فوره عقوبة الإعدام بالخائن ابن إسحاق.
عقب ذلك تمكن الناصر من إسقاط سرقُسطة بالحصار الخانق، ولم يجد محمد بن هاشم التجيبي رأس الخيانة -وزعيم التجيبيين في الشمال- بدًّا من طلب العفو والصلح، الأمر الذي قبله الناصر ربما لشوكة بني هاشم التجيبيين في تلك المناطق، فضلًا عن شروطه التي وافق عليها ابن هاشم وهي الطاعة التامة، والانقياد الكامل، وتسليم عدد كبير من إخوته وأبنائه رهائن لدى الناصر في قرطبة، “وأن يغزو مع أمير المؤمنين، ويُعادي من عاداه ويحارب كل من حاربه، ويسالم من سالمه من أهل الملوك وغيرهم، ويقطع نصيبه من كل من أخرج يده عن طاعته، وإن كان ابنه أو أخاه، يلتزم كل ما ألزمه أمير المؤمنين من ظاهر القول وباطن الإرادة”.
كارثة “الخندق”!
كان من نتائج المعركة إذعان الملكة “طوطة” ملكة نافار إلى الناصر، ومن ثم أذعنت له كافة الجزيرة الإيبيرية إلا مملكة ليون، فقد كان هدفه التالي مواجهة حاسمة وسريعة لتلك المملكة صاحبة القلاقل والأخطار، وملكها صاحب المتاعب المتتالية “راميرو الثاني”.
على أن الجبهة الداخلية في قرطبة لم تكن على وفاق وتواؤم تام؛ ذلك أن الناصر قرّب الصقالبة، وهم جنس أُتي بهم أسرى من القارة الأوروبية خاصة ألمانيا وفرنسا فبيعوا في الأندلس، وكانت السلطة الأندلسية تستخدمهم في خدمات القصور أو الجيش، خاصة أنهم كانوا يُؤتى بهم صغارًا فكان من اليسير عليهم اعتناق الإسلام، والإلمام بالعربية، وقد امتازوا بالطاعة التامة للأمويين.
وأكثر عبد الرحمن الناصر من شرائه لهذه الطائفة، وتقريبه لها، حتى بلغوا أكثر من عشرة آلاف صقلبي في عصره، عهد إليهم الخليفة الأندلسي شؤون الحرب، وقلّدهم المناصب الدينية المهمة، الأمر الذي أوغر صدور الأشراف من العرب، وقد تزامن ذلك مع إعلان الناصر عن حملته للقضاء على راميرو الثاني، وسحق مملكة ليون، وقد أعدّ لذلك جيشًا بلغ عدده مئة ألف رجل!
لذا؛ سُميت المعركة بـ”غزاة القُدرة”؛ قدرة المسلمين على هزيمة عدوّهم، في حين وصفتها المصادر الفرنجية بموقعة “الخندق”، خرج الناصر إلى الغزو في يوم الجمعة 22 شعبان سنة 327هـ/ يونيو/حزيران 939م، ووصل في قواته إلى طليطلة يوم 23 رمضان، ثم خرج منها إلى أرض العدو ليون في الخامس من شوال، فعاث فيها أيامًا، وألفى العدو قد أخلى معظم بلاد هذه المنطقة، فاستولى المسلمون عليها، ثم تقدموا إلى حصن أشكر، وخربوه وانتسفوا ما حوله. ثم ساروا إلى حصن أطلة، فحصن برتيل، وذلك يوم 13 شوال.
وكان محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقُسطة قد تقدّم في قواته، فعبر نهر شنت مانكش (سيمانقا)، فارتد العدو بقواته وراء النهر ونشبت بين الفريقين معركة هُزم فيها النصارى أولًا، ولكنهم عادوا فاجتمعوا وتكاثروا على المسلمين، وسقط محمد بن هاشم عن فرسه خلال القتال فأُسر، وهُزم المسلمون على باب شنت مانكش هزيمة شديدة، وقُتل منهم كثيرون وارتدوا في تراجعهم إلى خندق عميق، وهو الذي تُنسب إليه الموقعة، فتردى فيه منهم خلق كثير، فتقدم الناصر مضطرًا بقواته، وترك محلته، فملكها العدو في الحال، وعاد إلى قرطبة موليًّا على عقبه!
لقد كانت موقعة “الخندق” أو “غزاة القُدرة” كارثة كبرى على الجيش الأندلسي إذ تعددت الروايات التي تصف أعداد القتلى التي وصلت إلى أربعين أو خمسين ألف قتيل، وبعضها الآخر لم يحدد الأعداد بدقة، ولا شك أن هذه الهزيمة المنكرة كان لها أسبابها في ضعف عمليات الاستطلاع، والتعجل في الهجوم، وعدم الخبرة بمكان المعركة، فضلًا عن عوامل الضعف الداخلية التي تمثّلت في سرعة انسحاب قادة الجيش ممن كانوا ينقمون على الناصر تقريبه للصقالبة، والأخطر من ذلك المعلومات الثمينة التي كان قد تحصّل عليها راميرو الثاني من الثائر الخائن أمية بن إسحاق أخي القائد المقتول أحمد بن إسحاق الذي أعدمه الناصر لتقاعسه أثناء حصار سرقُسطة.
على أية حال، لم يقف عبد الرحمن الناصر في صراعه مع مملكة ليون عند هذه المعركة، فقد ثأر لنفسه وجيشه؛ “وقد كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهز عساكر مع عدّة من قوّاده إلى الجلالقة، فكانت لهم بهم عدّة حروب هلك فيها من الجلالقة ضِعْف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى، وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية”.
المصدر: وكالات/ إسبانيا بالعربي.