“لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ”: أجمل ما قاله شعراء الأندلس في رثاء المدن المفقودة
أخبار اسبانيا بالعربي / لا يشبه رثاء المدن الأندلسية رثاء أي مدينة عربية أخرى؛ فربما لم يكن هناك أروع من المدن الأندلسية التي قال عنها شعراؤها يوما:
لا أَنتَ أَنتَ وَلا الدِيارُ دِيارُ خَفَّ الهَوى وَتَوَلَّتِ الأَوطارُ
كانَت مُجاوَرَةُ الطُلولِ وَأَهلِها زَمَناً عِذابَ الوِردِ فَهيَ بِحارُ
أَيّامَ تُدمي عَينَهُ تِلكَ الدُمى فيها وَتَقمُرُ لُبَّهُ الأَقمارُ
إِذ لا صَدوفُ وَلا كَنودُ اَسماهُما كَالمَعنَيَينِ وَلا نَوارُ نَوارُ
ويقول ابن سفرِ المريني
أنهارُها فضّة، والمسكُ تُربتُها والخزُّ روضَتُها والدّرُّ حَصباءُ
وللهواءِ بِهَا لُطْفٌ يَرِقُّ بِـــــهِ مَنْ لا يَرِقُّ ويبدو منهُ أهوَاءُ
لم تحلّ بأي مدينة نكبة أشد من تلك التي وقعت بمدنها العامرة، التي فقدت حياتها الدينية والفكرية والحضارية فضلًا عما أصاب أهلها من ظلم وقهر، لقد تعرضوا للقتل والطرد وأُجبر بعضهم على التحول إلى المسيحية، ورأوا بأعينهم مساجدهم وهي تتحول إلى كنائس، وهكذا كتب شعراؤها قصائد باكية تصف المدن المفقودة تارة وتستنهض ملوك المسلمين للدفاع عنها تارة، قبل أن يسكت ذلك الصوت ولا يبقى سوى بكاء أطلال المدن الحسناء والتحسّر على أهلها وقد أُجبر من بقي منهم على العيش بعيدًا عنها.
قرطبة.. الرثاء الأول
كانت أطلال مدينة الزهراء حاضرة الخلافة الأموية تثير في نفس زائريها الحزن على ما آلت إليه أحوالها بعد انتقال مدينة الحكم إلى الزاهرة التي أسسها المنصور بن أبي عامر. وكان أول رثاء أهل الأندلس لمدينة قرطبة، حين نهبها البربر إثر الثورة ضد حكم ابن أبي عامر، ورأوا بداية انفراط عقد الخلافة الأموية، واستباحوا كل معالمها الحضارية، ورثاها حينئذ ابن شهيد الأندلسي وعدد من الشعراء المجهولين وحذّروا من عواقب الاختلاف والفرقة، وكان حنينهم إلى بني أمية وقوتهم.
أبني أمية أين أقمار الدجى منكم وأين نجومها والكوكب
ويقول ابن شهيد أيضًا:
فلمثل قرطبة يقل بكاء من يبكي بعين دمعها متفجر
دار أقال الله عثرة أهلها فتبربروا وتغربوا وتمصروا
في كل ناحية فريق منهم مـتـفطر لـفراقها متحير
وقال ابن عصفور الحضرمي في محاولة لتنبيه الناس بالواقع الماثل أمامهم:
أضعتم الحزم في تدبير أمركم ستعلمون معًا عقبى البوار غدا
لكن العمى أعمت بصائركم فألبستكم ثيابًا للبلى جددًا
يا أمة هتكت مستور سوءتها ما كل من ذل أعطى بالصغار يدا
ولم يكن هذا أسوأ ما حدث لمدينة أندلسية؛ فكما يذكر الدكتور شاهر عوض الكفاوين في كتابه «الشعر العربي في رثاء الدول والأمصار حتى نهاية سقوط الأندلس»، سقطت الدولة العامرية بعد ذلك، وتمزّقت وحدة الدولة وانهار صرح الخلافة وأصبح الحكم في أيدي زعماء محليين في كل مدينة أقاموا دويلات مستقلة بلغت 20 دولة وهي التي عُرفت باسم «دول الطوائف»، وكان حكم ملوك الطوائف وإن بدا مختلفًا في كل دولة؛ إلا أن المشترك بينهم جميعًا هو تناحرهم فيما بينهم والضعف الذي حلّ بهم في مواجهة المسيحيين، كان بعضهم يلجأ في حروبه ضد الدول الأخرى إلى الاستعانة بقوات القشتاليين مقابل جزية يدفعونها. وكانوا ينكرون كل الأصوات الداعية إلى الاتفاق بينهم.
بربشتر.. استنجاد ثمنه القتل
وبدأ سقوط المدن والحصون الأندلسية في يد الصليبيين، فكانت البداية في مدينة بربشتر في شمال الأندلس التي دخلها الصليبيون عنوة وتعرض أهلها لأهوال الذبح والأسر. كان حاكم المدينة قد قسمها بين أولاده الخمسة قبل موته، وبعده نشبت بينهم الخلافات وأخذ كل منهم يحاول الاستيلاء على ملك الآخر، تابعهم الصليبيون النومانديون واغتنموا إحدى الفرص للاستيلاء على المدينة، واستطاعوا دخولها عنوة واستباحتها وقتل من فيها حتى قُدِّر عدد القتلى والأسرى بين 40 ألف و100 ألف، وقُتل من أهلها 6 آلاف ذبحًا، وراح الجنود ينهبونها ويحتلون دورها، ورثاها الفقيه ابن العسال بقصيدة انبرى فيها يهاجم ملوك الطوائف ويصمهم بالجبن والتخاذل:
هتكوا بخيلهم قصور حريمها لم يبق لا جبل ولا بطحاء
جاسوا خلال ديارهم فلهم بها في كل يوم غارة شعراء
باتت قلوب المسلمين برعبهم فحماتنا في حربهم جبناء
كم موضع غنموه لم يرحم به طفل ولا شيخ ولا عذراء
بينما عزا ابن العسال ما ألمّ بالمدينة إلى ذنوب المسلمين فقال:
لولا ذنوب المسلمين وأنهم ركبوا الكبائر ما لهن خفاء
ما كان ينصر للنصارى فارس أبدًا عليهم فالذنوب الداء
فشرارهم لا يختفون بشرهم وصلاح منتحلي الصلاح رياء
وكان شاعر آخر مقرب من المعتضد بن عباد هو أبو الحفص الهوزني قد راح يستنهض الملك فكتب إليه يقول:
أعبّاد ضاق الذرع واتسع الخرق ولا غرب للدنيا إذا لم يكن شرق
ودونك قولا طال وهو مقصّر فللعين معنىً لا يعبّره النطق
إليك انتهت آمالنا فارم ما دهى بعزمك يدمغ هامة الباطل الحق
ويقول أيضا:
فلقّ كتابي من فراغك ساعة وإن طال فالموصوف للطول موضع
إذا لم أبثّ الداء ربّ دوائه أضعت وأهل للملام المضيّع
وأتبع الهوزني قصيدته بكتاب صوّر فيه للمعتضد الأهوال التي لقيها أهل المدينة، واختتمها يقول:«وإن هذا الأمر له ما بعده إلا أن يكتب الله على يديك دفعه وصدّه»، أصمّ المعتضد أذنيه عن الرسالة واعتبر أنها إنما أُرسلت لتوريطه وإظهار عجزه، واستدعى إليه أبا حفص الهوزني وقتله بيديه في إشبيلية.
وربما يفسر هذا ما لاحظه الباحثون من أن القصائد وإن لم تخل من التعرض لأسباب تلك النكبات المتوالية على المسلمين، فقد أشار أغلبها إلى أسباب بعيدة عن الحقيقة مثل عين الحاسد وذنوب الأمة، فيما السبب الحقيقة البادي للعيان هو ضعف الحكام وخيانتهم. على أن الأصوات التي راحت تستنهض ملوك الطوائف لنجدة بربشتر وجدت في النهاية من يسمعها ويستجيب، فقد جمع ابن هود فرسانه وحاصر المدينة واستطاع تحريرها بعد أن بقيت تسعة أشهر في أيدي المسيحيين.
طليطلة.. «سلكُ الجزيرةِ منثورًا من الوسطِ»
كان سقوط مدينة طليطلة سنة 478 هـ نكبة كبرى ونقطة التحول في تاريخ الأندلس، فقط كانت أكبر دول الطوائف وكان موقعها على الحدود المتاخمة للممالك المسيحية قد جعلها حاجزًا منيعًا في وجه أي عدوان منها.
وكان حاكمها المأمون يحيى ابن ذي النون قد أقام فيها حضارة مزدهرة، لكنه كان مثل باقي ملوك الطوائف يدفع الجزية للمسيحيين ليتقوى بهم على محاربة أعدائه ملوك الطوائف الآخرين، وقد لجأ إليه ألفونسو السادس -ملك قشتالة- حين اغتصب أخوه سانشو مُلكه، ورحب به المأمون وأكرمه، فعاش في طليطلة ودرسها جيدًا إلى ساعة وفاة أخيه سانشو واستعادته لملكه.
بعد أن تولّى القادر بن ذي النون -حفيد المأمون- عرش طليطلة وكان ضعيف الرأي نشبت الخلافات بين المحيطين به وقامت ضده الثورات فراسل ألفونسو السادس يستعين به ليوطّد حكمه، وقد ساعده ألفونسو بالفعل لكن جنوده نكّلوا بأهل طليطلة وأحرقوا ثمارها، وهكذا ضعفت المدينة شيئًا فشيئًا حتى تمكّن منها ألفونسو السادس في صمت ملوك الطوائف، وحاصرها أخيرًا واستولى عليها.
كان سقوط طليطلة يعني بداية انفراط العقد وتراجع الوجود الإسلامي في أرض الأندلس. وأخذ الشعراء يرثون في قصائدهم المدينة العامرة التي صارت عاصمة القشتاليين، وكانت قصائدهم تستهدف ضمن ما تستهدف استنهاض الملوك للدفاع عن الأندلس التي بدت لهم نهايتها قريبة، فقال ابن العسال:
يا أهل أندلس شدوا رحالكم فما المقام بها إلاّ من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى سلك الجزيرة منثور من الوسط
من جاور الشر لا يأمن بوائقه كيف الحياة مع الحيات في سفط
وكتب شاعر مجهول رثاءً طويلًا للمدينة قال فيه:
لثكلك كيف تبتسم الثغور؟ سرورًا بعدما سُبيتْ ثغورُ
لقد قُصمتْ ظهور حين قالوا أميرُ الكافرينَ له ظهورُ
طليطلة أباح الكفر منها حِماها إنّ ذا نبأ كبيرُ
مساجدها كنائس، أيُّ قلب على هذا يَقَرَّ ولا يطيرُ
فيا أسفاه، يا أسفاهُ حزنًا يكرًّرُ ما تكررت الدهورُ
ويقول الشاعر نفسه:
مضى الإسلام فابك دما عليه فما ينفي الجوى الدمع الغزيــر
ونـح وانـدب رفاقا في فـلاة حيـارى لا تحـط ولا تسيــر
ويواصل داعيًا إلى التوحد ومواجهة العدو فيقول:
خذوا ثأر الديانة وانصروها فقد حامت على القتلى النسور
ولا تهنوا وسلوا كل عضب تهاب مضاربا منه النحور
وموتوا كلكم فالموت أولى بكم من أن تجاروا أو تجوروا
المصدر: ساسة بوست/ إسبانيا بالعربي.