إيزابيلا الأولى.. ملكة قشتالة ”المُغتَصِبة” التي أنشأت محاكم التفتيش
في عام 1451 كان محمد العاشر يجلس على عرش مملكة غرناطة، حين ولدت في الجهة المقابلة في قشتالة الملكة التي ستضع نصب عينيها استعادة المملكة وإنهاء حكم المسلمين في غرناطة، التي كانت حينها قد صارت آخر مقاطعة يعيش على أرضها المسلمون في إسبانيا، بعد أن وقعت بلنسية، وقرطبة، وإشبيلية، ومرسية في أيدي الصليبيين في الفترة بين 1238 و1260، وأنهت قرنين ونصف قرن من حكم المسلمين في تلك الرقعة بين جبال سييرانيفادا وساحل البحر من المرية إلى جبل طارق.
لم تكن الساحة هادئة فقد نشبت حروب متتابعة بين المسلمين والصليبيين الذين وضعوا نصب عينيهم مملكة غرناطة للاستيلاء عليها، واستسلم على أثرها محمد العاشر وبدأ في دفع إتاوة إلى المسيحيين لصيانة مملكته بداية من العام 1463م، بلغت 12 ألف دوكات، كما يذكر ستانلي لين بول في كتاب «قصة العرب في إسبانيا»، ودخلت المملكة في صراعات داخلية بين أبناء الاسرة الحاكمة – بني الأحمر – على الحكم، ولم يكن الجانب الآخر أفضل حالًا، فقد تفرقت الممالك المسيحية بين قشتالة وأراجون ونافار وليون.
في تلك السنوات كانت «الأميرة» إيزابيلا الأولى الكاثوليكية تتعلم وتخطط للوصول إلى عرش قشتالة أولًا، ثم لما هو أكبر من ذلك، أن تتوحد الممالك المسيحية في شبه الجزيرة الإيبيرية وأن تستعيد غرناطة من أيدي المسلمين، لتفرغ لتحقيق أحلام أخرى بازدهار مملكتها قشتالة وتوسيعها، كانت إيزابيلا الأولى الكاثوليكية التي عرفت بتعصبها للمسيحية علامة فارقة في تاريخ إسبانيا كما في تاريخ العرب، فالنصر الذي حققته لم يكن سهلا، إنها حياة يمكن القول بأنها ملهمة، لولا التعصب الشديد ونقض العهود الذي جابهت به «أعداءها»، فوصم إنجازاتها وجعلها محل انقسام تاريخي حتى في بلدها.
إيزابيلا الأولى وطريق طويل نحو العرش
نشأت إيزابيلا الأولى في ظروف صعبة بالفعل، إذ لم تعش حياة الأميرات رغم كونها الابنة الثانية لخوان الثاني ملك قشتالة، عند ولادتها كان لدى الملك ابن من زواجه الأول من ماريا دي أراغون، هو إنريكي، وكان يبلغ حينها 20 عامًا، لم يكن متوقعًا لإيزابيلا الأولى أن تعتلي عرش مملكة قشتالة، فلديها أخوان كانا هما الوريثين الشرعيين.
بعد سنوات قليلة رحل خوان الثاني ليعتلي إنريكي عرش المملكة في عام 1454 ويرسل الأميرة مع والدتها وشقيقها الأصغر ألفونسو بعيدًا عن قصر الحكم، إلى أوريفالو، وهناك أصيبت إيزابيلا الأولى الأم بمرض عقلي بسبب وفاة زوجها الملك خوان الثاني، وهكذا لم تكن حاضرة في نشأة طفليها، وظلت على هذه الحال حتى وفاتها منعزلة في قلعة أريفالو عام 1496.
بعيدًا عن قصر الحكم، ورغم هذا التهميش تلقت إليزابيث تعليم الأميرات في أوريفالو حيث تربت مع شقيقها ألفونسو، إلى جانب الوالدة التي تعاني من الخرف. كانت إيزابيلا الأولى مع شقيقها تشق الطريق نحو العرش لسنوات كان المفترض أن يؤول إلى شقيقها الأصغر ألفونسو رفيق طفولتها، بعد أخيها إنريكي الرابع، وفي هذه الظروف المعقدة كان هذا هو الهدف الذي تعرفه.
تعلمت إيزابيلا الأولى القراءة والكتابة وركوب الخيل والصيد والرقص والحياكة وكيفية التصرف مثل النبلاء، وكان المشرف على تعلميها هو غونزالو تشاكون، الرجل الذي كان يرشدها ويدعم اختياراتها ويقف خلفها في طريقها الطويل، وعُرف عنه ميله للتفاوض مقابل المواجهة.
في العاشرة من عمرها استدعى الملك إنريكي الرابع، إيزابيلا الأولى وألفونسو ليكونا تحت مراقبته في قصر الحكم، إذ كان عدم الاستقرار السياسي يعصف بعرش إنريكي الرابع، وواجهت المملكة مصاعب اقتصادية خطيرة من ناحية واشتعلت الخلافات بين الملك ونبلاء المملكة بقيادة رئيس أساقفة توليدو ألفونسو كاريلو من ناحية أخرى.
وفي عام 1465 فرض النبلاء مجموعة من الإجراءات قلصت من سلطة الملك، وكان بين الشروط أن تقيم الأميرة إيزابيلا الأولى مع أخيها في سيغوبيا، وهناك رحل ألفونسو الصغير، لتكون إيزابيلا الأولى وريثة محتملة قوية للعرش، وكانت الوريثة الأخرى هى ابنة الملك إنريكي: خوانا.
عرش قشتالة يلوح في الأفق
بعد ثلاث سنوات فقط كان النبلاء يملون شرطا آخر على إنريكي؛ أن تكون إيزابيلا الأولى خليفة شرعية لتاج قشتالة، هكذا راحت إيزابيلا الأولى تقترب وتستعد لاعتلاء العرش، وكما كان شائعًا في القرون الوسطى، فقد كان زواجها فرصة لتحقيق أهداف سياسية، فراحت إيزابيلا الأولى تدرس الخيارات التي قد يوفرها لها زواج سياسي ناجح، فرفضت الزواج من ملك البرتغال الذي أراده لها الملك إنريكي، ورأت في زواجها من الابن الوريث لملك أراغون فرصة سياسية مثالية، وهكذا وقع الاختيار على فرناندو.
في سرية مطلقة بدأت ترتيبات الزواج، كان ضروريًا أن يحصل الأميران على إذن خاص من البابا كونهما أبناء عمومة من الدرجة الثانية، وبمساعدة رئيس الأساقفة ألفونسو كاريلو جرى تنفيذ كل شيء بسرية مطلقة فغادر فرناندو سرقسطة في 5 سبتمبر (أيلول) 1469 متنكرًا في زي خادم برفقة ستة أشخاص فقط، وبعد أيام أقيم حفل الزفاف أمام عدد محدود من الشهود.
في صباح يوم بارد من أيام شهر ديسمبر (أيلول) عام 1474 وصلت أنباء إلى قصر سيغوفيا حيث يعيش الزوجان إيزابيلا الأولى وفرناندو، تفيد بوفاة الملك إنريكي الرابع، في اليوم التالي مباشرة أعلنت إيزابيلا الأولى نفسها ملكة رسمية لقشتالة وأرسلت إلى المدن الرئيسية في المملكة تطالب بإظهار الولاء للملكة، لكنها لم تكن قد وصلت للعرش في الحقيقة، كان لا يزال أمامها بضع خطوات.
فقد قامت خوانا – ابنة إنريكي – بإعلان نفسها وريثة للعرش بالتعاون مع خالها الملك ألفونسو ملك البرتغال، الذي أرسل جيشًا للدفاع عن عرش قشتالة في حرب استمرت حتى سبتمبر عام 1479 وانتهت بعقد معاهدتي ألكاسوفاس ومورا، وأودعت خوانا دير كلاريس، لتضمن الملكة إيزابيلا الأولى ألا يكون لها ذرية تطالب يومًا ما بالعرش، ولتستقر إيزابيلا الأولى بلا منازع على عرش قشتالة، بعد سنوات، سيؤول عرش أراجون إلى زوجها الملك فرناندو، لتتسع المملكة التي يحكمها الزوجان، وليتفرغا للمملكة التي تؤرقهم؛ غرناطة.
سقطت غرناطة وإيزابيلا الأولى نقضت العهد
في كتاب «مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492 م» يقول خوليو كارو باروخا «لا يمكن اعتبار أواخر عهد خوان الثاني وسنوات حكم إنريكي الرابع – التي سادها الاضطراب- فترة نجاح فيما يتعلق بالحرب ضد الإسلام، إن الذين أرخوا لفترة حكم خوان الثاني يأسفون لتقاعس المسيحيين عام 1449 م عن الحرب ضد المسلمين نظرًا إلى الانشغال بحروب طائفية فيما بينهم».
لكن العهد الجديد كان مختلفًا؛ حتى قبل أن يتم الترابط بين مملكتي قشتالة وأراجون كان الملك فرناندو ينتهز فرص الانقسامات في قصر الحمراء بين السلطان أبو الحسن وأخيه الزغل، ليُغير على المدن الإسلامية. فشهدت السنوات بين عامي 1482 و1491 م سقوط مدن مهمة تابعة لمملكة غرناطة، قبل أن تستسلم المملكة نهائيا في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه.
يذكر الكاتب أن شروط معاهدة التسليم كانت -مثل معاهدات تسليم المدن الإسلامية السابقة- في صالح «المهزومين»، فالفقهاء والعلماء سيحتفظون بسلطاتهم باعتبارهم زعماء دينيين للجماعة الإسلامية، والممتلكات ستكون مصانة، لكن المعاهدة – كما يواصل الكاتب أيضًا – انتُهكت بعد قليل، إذ كانت غرناطة آخر المدن الإسلامية ولم يكن الصليبيون يخشون انتقامًا من أي مدينة مجاورة، وبدأت معاناة أخرى بعد شهور قليلة شهدت نقض العهود وإجبار المسلمين على التنصر؛ خضوعهم لمحاكم التفتيش.
بخلاف ما حدث عند الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية، من تسامح مع الأعراق والديانات المختلفة التي عاشت على أرض شبه الجزيرة، لم يكن لدى القائمين على «الاسترداد» المسيحي- الملكين الكاثوليكيين بشكل أساسي- أي رصيد إنساني يسمح بالتعايش بين فئات المجتمع المتعددة ولا بتحقيق العدالة الاجتماعية.
ففي كتاب «الموريسكيون ومحاكم التفتيش في الأندلس» يوضح المؤلف عبد الله حمادي، كيف واجه كل ما هو غير مسيحي عدم تسامح وكيف اتخذ «الاسترداد المسيحي” خطوات متسارعة نحو إلغاء الطرف الآخر، المسلم واليهودي، ففرضت شروط الهجرة والتنصير ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فحتى من قبلوا بشروط التنصير ظلوا محل عدم ثقة، إذ كان من ينتمي لأجداد مسيحيين فقط، هو «المسيحي الخالص»، أما المتنصرون حديثًا فلم يحظوا بالمعاملة ذاتها في المجتمع، وخضعوا لتهديدات محاكم التفتيش.
أسس الملكان الكاثوليكيان محاكم التفتيش عام 1478 وكان عملها يتركز في الممالك الإسلامية التي وقعت في يد المسيحيين من قبل، وكان إنشاؤها في الأساس لتتبع اليهود الذين تنصروا بالإكراه، وشكّ المسيحيون «القدامى» في إخلاصهم فتوجهوا بالشكوى إلى القسيس توماس دي توركيمادا، الذي رأى أهمية إنشاء محاكم تفتيش وأقنع الملكة إيزابيلا الأولى بذلك.
كانت المحكمة تختص بالقضايا التي تراها نوعا من الإلحاد، وكما يظهر من اسمها فلم تكن المحكمة تنتظر القضايا، كانت تتولى التفتيش بنفسها، في عام 1492 مثلًا، صدر قرار طرد اليهود من قشتالة، ليكون عمل المحاكم فقط هم الموريسكيين (مسلمو غرناطة الذين بقوا فيها بعد سقوطها) الذين أُجبروا على التنصر.
في تقديمه لترجمة كتاب «محاكم التفتيش والموريسكيون محاضر محكمة كوينكا» يذكر الدكتور جمال عبد الرحمن أن المسلمين فقط هم من كانوا يقعون تحت سلطة محاكم التفتيش، سواء كان التنصير بإرادتهم أو قسرًا، وهكذا بصدور قرار التنصير الجماعي صار الكل يقع تحت سلطة المحكمة، التي كانت تمول ذاتها وهكذا يمكن استنتاج كيف كان كثيرًا من قضاياها يعود لأسباب اقتصادية.
تذكر مرثيدس غارثيا أرينال مؤلفة الكتاب السابق ذكره، المصاعب التي واجهها الموريسكيون، أن الأمر كان مواجهة يومية مع المسيحيين القدامى، وأن كل الاختلافات الاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية كانت تُلصق بالاختلاف الديني.
اتخذت عملية التنصير طابع العنف، لم يكن أمام المسلمين إلا أحد الخيارين؛ التنصير أو التعذيب والسجن، هكذا كانت خيانة الملكين الكاثوليكيين لمعاهدة التسليم سببًا في هجرة كثير من المسلمين لغرناطة، باعوا ممتلكاتهم وأراضيهم بأزهد الأسعار للرحيل إلى أرض المغرب، وبقي غير القادرين منهم يخفون إسلامهم، رغم أن التنصير كان طريقا آخر نحو محاكم التفتيش التي مارست التعذيب ومصادرة الممتلكات.
تجربة الأمومة المريرة
أنشأت الملكة مكتبة كبيرة خاصة بها وصل عدد الكتب بها إلى 700 مجلد، إذ كانت إيزابيلا الأولى مهتمة بتلقي أبناءها تعليمًا كلاسيكيًّا، فأسست مدرسة في القصر لتعليم أطفال حاشية الحكم، وحرصت على أن ينال ابنها خوان دي تراستامارا تعليمًا مميزًا فتعلم الموسيقى والشطرنج وتلقى تدريبًا عسكريًّا، وصار تعليمه نموذجًا تحتذي به الأجيال التالية إذ تعلم القليل عن كل مجالات الحياة.
أنجبت إيزابيلا الأولى الكاثوليكية خمسة أطفال، إيزابيلا الأولى وخوان وجوانا وكاتالينا وماريا، وكانت الأمومة تجربة مريرة، ففضلاً عن الحالة الصحية المتدهورة لها، فقدت ابنها الوحيد عن عمر يناهز 19 عامًا، ثم ودعت ابنتها الكبرى إيزابيلا الأولى بعد زواجها من ولي عهد البرتغال، زواجًا سياسيًّا بدا طريقًا نحو توحيد المملكتين واتساعهما بعد أن صارت إيزابيلا الثانية وريثة العرش، وبوفاتها صارت جوانا – الابنة الثالثة – التي تزوجت من ابن ملك النمسا، هي الخليفة الشرعية لعرش قشتالة وأراجون.
أما آخر معاناة الملكة فقد كانت ما ظهر على الوريثة الشرعية لها؛ ابنتها جوانا من بوادر مرض عقلي، اختلف المؤرخون في كونه حقيقة أم مؤامرة من المحيطين بها للاستيلاء على العرش، حتى إنها عُرفت فيما بعد بـ«جوانا المجنونة»، لكن ما ظهر أثناء حياة الملكة من تصرفات جوانا كان يؤكد لها أن العرش لن يكون في أيدٍ قوية تحفظ ما أنجزته إيزابيلا الأولى.
في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 1504 توفيت الملكة عن عمر يناهز 53 عامًا، توفيت الملكة الكاثوليكية في مدينة ديل كامبو، ولحقها الملك فرناندو عام 1516، ودفن الملكان معًا في الكنيسة الملكية بغرناطة، ويمكن القول إنه في القرارات التي اتخذها الملكان كان من الصعب التمييز بين القرارات التي اتخذها أحدهما، فقد جمعا المهارة والحكمة، ورغم ما بدا من توحد الكلمة بينهما فقد حفظت إيزابيلا الأولى حقوق مملكتها قشتالة واستطاعت تحقيق مصالحها.
تعد إيزابيلا الأولى واحدة من أبرز ملوك أوروبا الحديثة إذ اكتمل في عهدها «استرداد» شبه الجزيرة الإيبيرية، ويعود لها الفضل في اكتشاف القارة الأمريكية، بما أتاحه لإسبانيا من ثروات، إنها «الملكة المقدسة» لدى البعض و«المغتصبة» لدى آخرين لكن ما لا يمكن الشك فيه أنها كانت امرأة قوية، وأن النصر الذي حققته لمملكتها لم يكن سهلًا، ربما كان التاريخ سيذكرها بشكل مختلف لو لم توصم إنجازاتها – لمملكتها- بخيانة العهد الذي وقَّعته بنفسها.
إسبانيا بالعربي.