“ما لا يذكره التاريخ كثيرًا”.. ماذا تعرف عن الاستعمار الهولندي في أفريقيا؟
أفريقيا، تلك القارة البعيدة الشاسعة التي تلتقي فيها الصحراء القاحلة مع الغابات الاستوائية، قارةٌ لا يرى لها حدود، كانت إلى فترة طويلة من الزمن مجهولةً ولغزًا لدى ساكنة الضفّة الشمالية للمتوسط، قبل أن تفّك الاكتشافات الجغرافية المتتالية بداية من القرن الخامس عشر خيوط لغز القارة، ويصل الإنسان الأوروبي إلى أعماق أدغال أفريقيا.
كانت هولندا من بين الإمبراطوريات التي حملت شرف اكتشاف أدغال أفريقيا عن طريق اكتشافاتها الجغرافية وهجراتها الجماعية الاستيطانية إلى جنوب أفريقيا، والتي جاءت في إطار التنافس البرتغالي الهولندي للسيطرة على أكثر المناطق الإستراتيجية في العالم ذاك الوقت؛ حتى صار القرنين 17 و18، العصر الذهبي للإمبراطورية الهولندية.
قد تكون هذه الكلمات التي سبقت مرصعة بالشرف في تاريخ هولندا، على أنّها أمجاد الهولنديين الغابرة التي يجب الإفتخار بها؛ غير أنّ المشهد غير المروي من قصة الهولنديين في أفريقيا، هي تلك المجازر والاستعباد الذي مارسه الهولنديون تجاه الأفارقة في القرنين 17 و18؛ والتي خلّفت مئات الآلاف من الأفارقة القتلى وساهمت في استعباد أبناء القارة ومكنت للإنسان الأوروبي في أقصى جنوب القارة الأفريقية.
في هذا التقرير؛ نعود بالزمن إلى القرنين 17 و18، أين كانت آلة القتل والاستعباد الهولندي تحصد في الأفارقة بكلّ بشاعة.
كيف تحولت هولندا إلى أكبر قوة استعمارية في القرن 17؟
بسقوط غرناطة نهاية القرن 15 تغيّرت موازين القوى بالعالم؛ وذلك بظهور قوى جديدة وانهيار أخرى. كان كلٌ من البرتغال وهولندا إحدى تلك الدول التي خدمتها الأحداث المتسارعة في ذلك الوقت، بتحوّلهما إلى قوتين بحريتين عتيدة، وحملهما مشعل الحروب الصليبية ونشر المسيحية في القرون الثلاثة التي تلت هزيمة المسلمين في غرب أوروبا.
ومع انتعاش هواية الرحلات والاكتشافات لدى المغامرين الأوروبيين لاستكشاف الساحل الأفريقي؛ وصلت سنة 1488 على سبيل المصادفة سفينة البحار البرتغالي بارثولوميو دياز إلى «رأس الرجاء الصالح» واستطاع الدوران حوله. ولكن عواصف شديدة أجبرته على الرجوع، وتأجل موعد الكشف العظيم؛ حتى لحظة البحار البرتغالي فاسكو دي جاما بعد تسع سنوات من ذلك؛ ليكتشف الطريق التي ستقلب هذا العالم رأسًا على عقب.
لم تكن حملة دي جاما مسالمة كما تذكر عدّة مصادر تاريخية أوروبية، فقد كانت مقدمةً لمأساةٍ سيعيش آثارها الأفارقة لقرون، استهلها فاسكو دي جاما بنفسه حين هاجم في طريقه الموانئ المسلمة على طول السواحل، وضربها بمدفعيته، ولجأ في بعض الأحيان لقرصنة السفن أمام ساحل مومباسا (كينيا)؛ لتضع البرتغال أسس المرحلة الاستعمارية الأوروبية الجديدة لأفريقيا بدايةً من القرن السادس عشر.
الهولنديون استوطنوا أفريقيا قرنين من الزمن في كتابه «تاريخ أفريقيا الحديث والمعاصر» يكشف المؤرخ شوقي عطا الله الجمل عن الوجه القبيح للاستعمار الأوروبي لأفريقيا؛ ومن بين المآسي التي يسردها الكتاب، الصورة السوداء لهولندا التي رسمتها بالدم في أفريقيا. إذ يشير حمدان إلى أنّ هولندا برزت كدولةٍ استعمارية كبرى بدايةً مع القرن السابع عشر، معتمدةً في ذلك على بحريتها، وعلى تحوّل نشاطها البحري إلى طريق الرجاء الصالح؛ الذي كان أحد أسباب ضعف شأن الدول المطلّة على المتوسط، والتي كانت من أهم مراكز الحضارة في العصور القديمة والوسطى.
ساهم الموقع الجغرافي الفريد لهولندا بالنسبة للقارة الأوروبية في إتاحة الفرصة للهولنديين في لعب الدوّر الأوّل في الملاحة البحرية، وأن يخلفوا البرتغاليين والإسبان بدايةً من القرن السابع عشر، بالرغم من كون هولندا مستعمرةً إسبانية سابقة، لتكون سنة 1595 منطلق أولى الحملات البرتغالية باتجاه الساحل الأفريقي.
شركة الهند الشرقية الهولندية.. آلة الاستعمار الهولندية
في سنة 1602 ومع إرتفاع الطموح الهولندي في التوسع أكثرًا اقتداءً ببريطانيا الاستعمارية وتنافسًا معها؛ تأسست في العاصمة أمستردام «شركة الهند الشرقية الهولندية» للعمل في الطريق الجديد الذي اكتشفه دي جاما المؤدي للهند والشرق؛ وذلك ردًا على تأسيس بريطانيا لشركتها الشهيرة.
وطيلة قرنين من الزمن استطاعت الشركة أن تحوّل هولندا إلى إمبراطورية استعمارية تنافس بريطانيا على نفوذ آسيا وأفريقيا. بعد ثلاث سنواتٍ من تأسيسها أرسلت شركة «الهند الشرقية الهولندية» التي منحتها حكومة هولندا السلطة وحرية العمل فيما يتعلّق بالملاحة والتجارة، بعثة من ثلاث سفن بقيادة جان فان ريبيك لإنشاء محطة تموين في أفريقيا تكون بمثابة قاعدةٍ بحرية للشركة في طريقها نحو الشرق، ليكون الاختيار على منطقة خليج تييل (كايب تاون حاليًا) بجنوب أفريقيا.
كان ذلك حسب جمال حمدان في كتابه «إستراتيجية الإستعمار والتحرر»، أوّل نزولٍ للهولنديين بالأراضي الأفريقية؛ لكنه لم يكن نزولًا عاديًا بعد أن استقر ركاب السفن الثلاث على تأسيس مدينة الرأس (كايب تاون) على أشلاء سكانها، بعد أن شرّد الوافدون الهولنديون السكان المحليين من أراضيهم.
مجازر وحشية ارتكبتها هولندا في جنوب أفريقيا مع إبداء المحليين الافارقة مقاومة لهذا الاستيطان؛ والتي كانت تأتي عن طريق هجمات متفرقة؛ سارع فان ريبيك إلى تقوية حصون مدينته والتوغل أكثر في الداخل الأفريقي وارتكاب مزيد من المجازر. بينما شجّعت الحكومة مواطنيها بالهجرة إلى مدينة الرأس، حتى بلغ عدد سكان المستعمرة الهولندية الجديدة في جنوب أفريقيا مع سنة 1707 حوالي ألفي شخص هولندي يتحدثون اللغة الأفريكانية، وهي لغة تطورت من اختلاط اللغات الهولندية والأفريقية الأصلية ولغات أخرى.
ظلّت شركة «الهند الشرقية الهولندية» صاحبة السلطة المطلقة في مستعمرة الهولندية بجنوب أفريقيا؛ خصوصًا بعد أن عهدت الشركة إدارة المستعمرة لأحد الضباط الهولنديين، ما جعل الحكم بالمنطقة أشبه بالعسكري. إذ اعتمدت الشركة في إدارتها للمناطق الخاضعة للنفوذ الهولندي إلى جلب الأفارقة من أنجولا وموزمبيق، وتحويلهم إلى عبيدٍ، واستقدامهم للعمل في الحقول والمراعي الهولندية بجنوب أفريقيا، وحوّل الهولنديون قبائل «الهوتنتوت» إلى عبيدٍ لهم.
بعد سنواتٍ من الحروب معهم انتهت في الأخير إلى استعبادهم جماعيًا. فكانت غانا أولى الدول الأفريقية التي استعمرتها هولندا بحكم تواجدها في طريق الألة الاستعمارية المتشكلة من شركة الهند الشرقية الهولندية. وفي هذا الصدد، أنشأ الهولنديون قلعة المينا في غانا عام 1642، واستخدموها لتجميع الأفارقة الذين يخطفونهم، ومن ثم إرسالهم عبيدًا إلى الرأس وإلى أوروبا والأمريكيتين. وصل الهولنديون أيضًا إلى ناميبيا عام 1793، واستولوا على ميناء «ولفس بي» أهم موانئها، وقتلوا من يعيشون فيه، واستخدموا الميناء منذ ذلك الحين لإرسال العبيد من أفريقيا.
«قبائل البوير» وصمة العار الأفريقية في جبين هولندا الاستعمارية
يذكر العميد الركن المتقاعد يوسف روكز في كتابه «أفريقيا السوداء.. سياسة وحضارة» الاستيلاء التوثيقي للأوروبيين على القارة السوداء، قائلًا: إن «تاريخ أفريقيا لم يُكتب بعد». في إشارة إلى أن ما كُتب من التاريخ الأفريقي هو بأقلام المستعمرين الذين كتبوا فصولًا عن غزواتهم ومعاركهم؛ فمجدوا «بطولاتهم»، وأنكروا وجود تاريخ أفريقي محلي. كما وصل بهم الحقد إلى اعتبار مقاومة الأفارقة لهم «بربرية وهمجية».
ومن بين المسائل التاريخية التي يخفي المؤرخون الأوروبيون الكثير من المشاهد المخزية عنها، التواجد الهولندي في جنوب أفريقيا تحت ما يسمى بقبائل البوير التي أسست نواة ما يعرف اليوم بدولة جنوب أفريقيا. فقد أرست مدينة الرأس (كيب تاون) لبنة الوجود الهولندي الدائم في أفريقيا بنشأة البوير – وهم الأفارقة من أصولٍ هولندية – الذين تميّزوا بالعداء الكبير تجاه الشعوب الأفريقية الأصلية، وخاضوا معهم حروبًا متكررة أدّت لمقتل مئات الآلاف من الأفارقة.
عاش البوير الهولنديون في الأراضي الأفريقية من منطلقٍ عنصري ديني تجاه السكان الأفارقة الأصليين؛ إذ يشير زاهر رياض في كتابه «استعمار أفريقيا» إلى أنّ البوير كانوا يرون أنفسهم أبناء الله في البرية، وأنّ العنصر المسيحي منتخب إلهيًا لحكم الأرض والسكان الأصليين المتخلفين فيها، وهو العنصر الذي ساهم في مجازر بشعة ارتكبها الهولنديون باسم المسيحية.
الوافدون الهولنديون حوّلوا الآلاف من الأفارقة إلى عبيد بداية من القرن 17 ولم يكتفِ البوير الهولنديون بالاستقرار بمدينة الرأس؛ فيذكر حسن سيد سليمان في دراسةٍ له منشورة على العدد الثاني لمجلة «دراسات أفريقية» إلى أنّ البوير بدأوا في تحركاتهم الاستيطانية في التوسع تدريجيًا بتأسيسهم لمدينتي الترنسفال (جوهانسبورج) وأورانج الحرة (بريتوريا) وإعلان استقلال دولتهم المقامة على تلك الأراضي، كما ساهم اكتشاف المعادن النفيسة من ذهب وألماس وفحم في تعزيز التواجد الهولندي، ثم البريطاني فيما بعد في أقصى الجنوب الأفريقي.
وقد يرتسم في ذهن الكثيرين أنّ الحرب بين البوير الهولنديين والإنجليز نهاية القرن التاسع عشر هي إحدى صور الكفاح الوطني بين الوطنيين والأوروبيين، غير أنّها في الحقيقة لم تكن سوى صورة أخرى من صور الصراع بين هولندا وبريطانيا للاستحواذ على ثروات القارة الأفريقية. فقد عاصرت اكتشاف الذهب والألماس في جنوب أفريقيا تطورات جذرية في سياسة الدول الأوروبية تجاه القارة الأفريقية. فبعد أن كانت أنظار بريطانيا مصوّبة تجاه الشرق الآسيوي؛ تمكن الشاب سيسيل رودس من تحول أنظارها نحو أفريقيا عبر رحلته بين البحيرات الاستوائية انطلاقًا من القاهرة إلى الرأس التي اصطدمت فيها أحلامه بالبوير الهولنديين.
وأدت هذه الاكتشافات في مزيدٍ من الهجرات من المغامرين الباحثين عن الثراء الذين كان أغلبهم من الإنجليز، لتبدأ حرب شرسة بين بريطانيا والبوير – بحكم إعلان بريطانيا مناطق البوير تابعةً إمبراطوريتها – ارتكبت فيها مجازر رهيبة أدت في النهاية إلى انهيار البوير وحكمهم في الجنوب، ونهاية الاستعمار الهولندي لجنوب أفريقيا وحلول الاستعمار البريطاني مكانه.
إسبانيا بالعربي.