الإمبراطورية البرتغالية.. كيف صنع البحر أطول إمبراطورية في التاريخ؟
أين شواهدكم، معارككم، شهداؤكم؟ أين ذاكرتكم القبلية؟ أيها السادة في القبة الرمادية. البحر. البحر قد أقفل عليها. البحر هو التاريخ» *الشاعر ديريك والكوت
يقول مايكل نورث في بداية كتابه «اكتشاف بحار العالم»، إن البحر هو محور التاريخ، وفي أعماقه يحتفظ بذاكرةٍ خاصة، تمامًا كما يحتفظ بجثث البحارين والعبيد والكنوز. لكن كيف نكتب تاريخ البحر؟ كان هذا هو السؤال الذي طرحه نورث؛ وقد أجاب عنه في دراسته التي تتناول القصص والأدوار التي لعبها البحر في صنع التاريخ، وإقامة إمبراطوريات وزوال أخرى، بدايةً من اكتشاف الإنسان للبحر، وحتى وقتنا الحاضر.
ومن ضمن الإمبراطوريات التي كان للبحرِ فضل عليها، نجد الإمبراطورية البرتغالية حاضرة في الذاكرة، جنبًا إلى جنبِ الروايات عن البحار والمستكشف البرتغالي فاسكو دا جاما، ومن داخل السفن وقصص الرحلات البحرية والتجارية، نستكشف معًا تاريخ هذا الجزء الغامض من العالم.
«البحر من ورائهم».. هكذا ساهمت الملاحة في تكوين الإمبراطورية البرتغالية
يجهز البحارة القلاع، ينشرون أشرعة سفنهم، يتزودون بالأسلحة، و يحركون المجاديف من أجل اكتشاف العالم. كانت تلك هي البداية لواحدة من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ؛ وذلك عندما بدأت البرتغال في القرن الخامس عشر رحلاتها الاستكشافية حول بحار العالم، وطوروا مهارات خاصة للتعامل مع المحيطات، نقلها عنهم فيما بعد جيرانهم الإسبان. وأبحروا معلنين بدء عصر استعماري جديد.
كانت البرتغال أول دولة تجري كشوفًا بحرية، وقد توفرت لها الخبرة ومعرفة السفن والبحار، وحركة النجوم، والبوصلة البحرية، وعلم الجغرافيا، وقد ارتبطت حركة الكشف البرتغالي بالأمير هنري الملاح، الابن الثالث لملك البرتغال يوحنا الأول. إذ كان هنري منذ صغره شغوفًا بالفلك وحركة النجوم. درس الخرائط الجغرافية، والأجرام السماوية، والطرق البحرية، وحركة الرياح، واهتم ببناء السفن؛ فشهدت الملاحة وحركة الإبحار في المحيطات تطورًا إبان ذلك.
ويبدو أن هنري كانت تراوده رؤى استعمارية؛ فقد قاد عدة مغامرات حربية ضد بلاد المغرب في شمال أفريقيا بحجة القضاء على القرصنة. كما نجح في الاستيلاء على سبتة، الواقعة على الشاطئ الشمالي الأفريقي، ونجح في إخضاع الجزء الشمالي الغربي من نهر السنغال إلى غانا، وقد كان هدف هنري من كل هذه الفتوح هو نشر المسيحية. إذ عرف عنه تدينه الشديد وتعصبه، وأصبحت مملكته حصنًا للمسيحية في قلب أفريقيا.
في ذلك الوقت، استخدم هنري تجارة الرقيق الأفريقي من أجل جمع الأموال اللازمة لإنشاء إمبراطورية برتغالية تحقق أهدافه الدينية، إذ كان هدفه الأخير هو الوصول إلى الشرق الأقصى حيث الهند والصين. وقد حرص البرتغاليون، كلما وصلوا إلى مكانٍ، على رسم خرائطه الجغرافية، وبذلك نشطوا على الساحل الأفريقي ووصلوا إلى ساحل العاج، ونيجيريا، والكاميرون، ومصب نهر الكونغو، وكونوا نقاطًا محصنة، لتكون قواعد عسكرية وتجارية لهم. حينها لم يسمح لأي من البحارة بالملاحة على الساحل الأفريقي إلا بتصريح خاص من البرتغال.
لم يكن الطريق إلى الهند وبحر الصين سهلًا؛ إذ سعى البرتغاليون لمعرفة أصول الملاحة عند العرب، وأرسلوا بعثات إلى البلاد العربية استطاعت الحصول على بعض الخرائط التي رسمها العرب للمحيط الهندي وبحر الصين، واستخدموها ليسبقوا الأوروبيين إبان عصر النهضة؛ وذلك بحسب مفيد الزيدي وكتابه «موسوعة تاريخ أوروبا». وبوفاة هنري الملاح، لم تتوقف حركة الكشوف البرتغالية عند سواحل أفريقيا، بل شرع ملك البرتغال يوحنا الثاني حينذاك في استكمال ما بدأه هنري، ليبدأ عصر جديد من الكشوف.
«رأس الرجاء الصالح».. نشأة إمبراطورية وأفول أخرى
لم يكن العالم في العصور الوسطى، قرية صغيرة كما نعهده اليوم. بل كانت الدول والقارات منغلقة على ذاتها. ومنذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، لم تنشأ إمبراطورية أخرى حتى بداية عصر النهضة. كان الفكر الاستعماري يعني الاستحواذ على مزيدٍ من الأرض، من يصل إلى أرضٍ جديدة أولًا يملكها، ويملك سواحلها وتجارتها. وقد كان «البحر» هو الطريق الأكثر خطورة وشغفًا في الوقتِ ذاته.
لم تعرف الدول إبان عصر النهضة الممتد من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر سوى مجموعة بحار ومحيطات ضئيلة عن ظهر قلب. إذ كانت تلك البحار هي المعروف طرق ملاحتها وبوصلتها البحرية. ولهذا كان القرن الخامس عشر شاهدًا على المغامرات البحرية. رحلات لا تعرف وجهتها تحديدًا، ترسم من خلالها الخرائط لأول مرة، ويستكشف بها البحارة الطرق والعوالم البعيدة. ربما تعرف منهم طريق «رأس الرجاء الصالح»، هذا الطريق البحري الذي استخدمه القدماء في الوصول إلى سواحل الشرق الأقصى، عن طريق الالتفاف حول القارة الأفريقية. لكن هل تعرف كواليس اكتشاف هذا الطريق القديم؟
في ذلك الوقت، كانت التوابل الشرقية كنزًا يسلب ألباب الغرب. ولهذا سعى كلٌّ منهم للسيطرة على تجارتها. حينذاك كانت البندقية تحتكر سوق التوابل الهندية، أما البرتغال وإسبانيا، فقد تسابقا، «مَن يستطيع الوصول إلى الهندِ أولًا؟ ومن يزيح البندقية عن عرش تجارتها؟». وقد اتخذت كل منهما طريقًا بحريًّا مختلفًا، يهدف في النهاية إلى الوصول لسواحل الهند بعيدًا عن أوروبا.
اتجهت إسبانيا غربًا برعاية الرحالة كريستوفر كولومبوس عام 1492. في حين عهد الملك البرتغالي يوحنا الثاني إلى البحارة بارثولوميو دياز مهمة الوصول إلى الهند. وقد كان هدف دياز هو ارتياد الساحل الأفريقي، والدوران حول القارة، أملًا في الوصول إلى الهند عن طريق البحر.
نشب في ذلك الوقت صراع إسباني- برتغالي، من أجل السيطرة. كل منهما يسعى من أجل تأمين حقه في الأراضي الجديدة التي وصل إليها. وفي عام 1487، انطلق دياز في رحلته من أفريقيا جنوبًا حتى خليج «الزوابع»، أو هكذا أطلق عليه نظرًا إلى وعورته والعواصف البحرية. وفي عام 1488، عاد إلى بلاده مبشرًا بطريقٍ بحري جديد واضح المعالم ومباشر نحو الهند، وقد أطلق الملك يوحنا الثاني على هذا الخليج اسم «الرجاء الصالح».
في ذلك الوقت كان البحر سبيلًا في فتح الهند أمام الإمبراطورية البرتغالية الناشئة، إلا أنه كان سببًا أيضًا في زوال الدولة المملوكية، نظرًا إلى تحول طرق التجارة إلى الهند للرجاء الصالح، عوضًا عن المرور بأراضي العالم القديم.
«فاسكو دا جاما».. وفتح الهند أمام البرتغال
عندما وصل بارثولوميو دياز إلى خليج الرجاء الصالح، أعلن أن الطريق إلى الهند أصبح واضحًا، إلا أن البحارة والمستكشف البرتغالي الشهير، فاسكو دا جاما، كان أول من خطا على هذا الطريق مُستكملًا إياه إلى آخره نحو الهند. فأعد حملة بحرية ونجح في استكمال الدوران حول جنوبي أفريقيا، وصولًا إلى سواحل موزمبيق. فمن هو البحارة فاسكو دا جاما، الذي عاد إلى بلاده أول مرة عام 1499، وسفنه مشحونة بالتوابل والمنتجات الشرقية؟
ولد دا جاما عام 1460، وعندما كان شابًا التحق بالبحرية، وكانت أولى مهماته المعروفة، عندما أرسله الملك يوحنا عام 1492 إلى جنوب لشبونة، عاصمة البرتغال، وذلك من أجل أسر بعض السفن الفرنسية انتقامًا وردًّا على اعتراض الحكومة الفرنسية لسفن البرتغال.
كانت رحلة رأس الرجاء الصالح، هي الرحلة التي ذاع صيت دا جاما فيها؛ إذ كان حينذاك مجرد مستكشف عديم الخبرة، خلال تلك الرحلة قاد دا جاما أسطولًا من أربع سفن، وقد قادها جنوبًا في اتجاه الريح على طول ساحل أفريقيا، وهو عكس ما فعله كولومبوس، والذي كان يظن أنه وجد الطريق إلى الهند عن طريق الإبحار شرقًا.
مع اقتراب أسطوله من موزمبيق كان داء الأسقربوط – نقص فيتامين سي- قد فتك برجاله. ارتأى له التوقف عند موزمبيق من أجل التزود بالمؤن والراحة، وقد كانت مدينة مسلمة يسيطر عليها التجار المسلمون. ومن كينيا بعد ذلك أبحر دا جاما في رحلة استمرت 23 يومًا في مياه المحيط الهندي، وصل بعدها إلى مدينة كاليكوت الهندية، وقد احتضنتهم المدينة ثلاثة أشهر، لم يظن خلالها التجار المسلمون أنهم يتخلون عن تجارتهم لهؤلاء الزائرين من الغرب.
أما عن رحلة العودة إلى البرتغال، فقد سقط فيها العديد من أفراد طاقم دا جاما بداء الإسقربوط إلى درجة أجبرته على إحراق إحدى سفن أسطوله من أجل النجاة. وصل البحار حينها إلى بلده الأم بعد عامين من الإبحار، غطى فيهم حوالي 24 ألف ميلًا بحريًّا، ولم ينج من طاقمه سوى 54 فردًا من أصل 170 شاركوه بداية الرحلة.
لهذا نجد في المصادر الغربية احتفاءً خاصًّا بالمخاطر التي خاضها دا جاما من أجل الوصول إلى الهند، خاصةً بعدما كانت النتيجة السريعة لرحلاته مجدًا عظيمًا للبرتغال، عن طريق سيطرتها على طرق الملاحة والتجارة في الهند، والحبشة، وجزيرة العرب. وعن طريق دا جاما ورفاقه أصبحت البرتغال الدولة التجارية الأولى في العالم. لقبوه حينها «أمير البحار الهندية» ومن بعده بدأت البرتغال في تكوين مستعمراتها في الهند إلى جانب أفريقيا، وأمريكا الجنوبية.
على الرغم من ذلك، فقد كان للمصادر الهندية رأي آخر فيما يخص شخصية دا جاما؛ إذ تشير إلى أن أعمال العنف التي صاحبت رحلات فاسكو دا جاما كانت أقرب إلى أعمال القراصنة منها لأعمال البحارة. فعندما امتعض سلطان موزمبيق من البحار البرتغالي القادم إلى بلاده وأمره بالرحيل، أطلق دا جاما النار على الساحل الموزمبيقي أثناء رحيل سفنه. وخلال رحلته إلى الهند اعتمد القرصنة والسطو على السفن التجارية العربية غير المسلحة.
كان وصول دا جاما إلى سواحل كاليكوت عام 1498، وعودته إلى بلاده محملًا بهدايا الشرق الثمينة فرصة للبرتغاليين الذين عززوا وجودهم في كوشين، وبومباي، وسورات. إلا أن رحلته الثانية إلى الهند قد ارتبط بها حادثة سيئة السمعة؛ إذ كان دا جاما يستولي على أية سفينة عربية مارة بالبحار الهندية، حينذاك استولى على سفينة حجاج متجهة من كاليكوت إلى مكة، على متنها 400 حاج من بينهم 50 امرأة. وشرع في نهب السفينة ولم تأخذه رحمةً بالنساء ولا الرجال؛ إذ أضرم النيران فيها رغم توسلات الأسرى. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ تروي المصادر أعمالًا بالغة القسوة لدا جاما؛ كأن يقطع الأنوف والآذان لطاقم سفينة محملة بالأرز من أجل الاستيلاء عليها، أو عداءه للمسلمين خاصة من أهالي كاليكوت.
يقول عن ذلك المؤرخون إن دا جاما قد يكون بحارًا ناجحًا، وصل بالبرتغال إلى الهند، وأنشأ العديد من النقاط التجارية على طول الطريق، إلا أن جسر التجارة الذي افتخرت به البرتغال وأسست على ضفافه إمبراطوريتها، كان ملطخًا بالدماء.
هكذا يغير البحر التاريخ..
لم تكن رحلات البرتغال الاستكشافية – كما تخبرنا بعض المصادر– تهدف إلى التجارة فقط، بل كان لها هدف آخر تمثل في التبشير بالمسيحية، والتضييق على الدول الإسلامية التي احتكرت طرق التجارة زمنًا عبر حوض البحر المتوسط وبحر العرب، ولهذا سعوا في تأسيس مراكز تجارية جديدة، ونشروا المسيحية أينما حلوا، بدايةً من أفريقيا، ووصولًا إلى مدن الشرق الأقصى في آسيا، وأجزاء من أمريكا الجنوبية، وقد كان لطريق رأس الرجاء الصالح ورحلات دا جاما بالغ الأثر في العرب والمسلمين.
عن ذلك يقول سامي بن عبد الله المغلوث في كتابه «أطلس تاريخ العصر المملوكي»: «كانت مصر وبلاد الشام حينذاك مركزًا للتجارة العالمية، والطريق الرئيسي لتجارة الشرق، إلا أن الدولة المملوكية كانت موعودة بحدثين عظيمين»؛ إذ سعت الحركة الاستعمارية الجديدة المتمثلة في الكشوف الجغرافية لتطويق بلاد المسلمين عام 1498، وذلك عن طريق تأسيس طريق تجاري جديد يصل أوروبا بالهند بعيدًا عن بلاد العرب. هذا إلى جانب زحف البرتغاليين جنوبي البلاد العربية وتحالفهم مع الصفويين على أبواب الخليج العربي.
كانت النتيجة تتمثل في تدهور الأوضاع الاقتصادية للدولة المملوكية وانتشار الأوبئة والمجاعات والأزمات السياسية، وتمثلت النهاية في هزيمة السلطان المملوكي الأخير قنصوه الغوري على يد السلطان العثماني سليم الأول، إيذانًا بانتهاء مرحلة تاريخية، وبداية أخرى.
أما البرتغال فقد نجحت في السيطرة على طرق الملاحة الدولية؛ وبالتالي استطاعت أن تكوِّن مركزًا تجاريًّا جديدًا. بعدما نجحوا في إجبار أمراء الهند على توقيع المعاهدات التجارية التي تقتصر التجارة على البرتغاليين فقط. وعندما حاولت الدول الإسلامية أن تحول دون ذلك، هزموا في معركة ديو البحرية عام 1509.
وواصل البرتغاليون توغلهم في العالم، وقد ساعدتهم حركة الكشوف الجغرافية على الوصول إلى البرازيل. وفي عام 1525، بدأوا في تنظيم استغلالها عن طريق حركة الإقطاع؛ إذ اقتطع المغامرون البرتغاليون لأنفسهم الأراضي البرازيلية، وتمكنوا من نشر لغتهم فيها، وتقاليديهم، وديانتهم المسيحية الكاثوليكية.
وإبان القرن السادس عشر، أصبحت البرتغال واحدة من أطول الإمبراطوريات الحديثة؛ إذ كونوا مواقع استيطانية وصلت من لشبونة عاصمة البرتغال إلى ناجازاكي في اليابان، وذلك على طول سواحل أفريقيا، والشرق الأوسط، وآسيا. وكما قال الشعراء عن ذاكرة البحر، بأنها جزء من التاريخ المدفون إلى جانب جثث البحارة، كانت الإمبراطورية البرتغالية أكبر دليل على قدرة البحر في تغيير حركة التاريخ.
إسبانيا بالعربي.