الحاكم الشهير مجهول النسب.. «داهية» العرب زياد بن أبيه
في مجتمع قريب عهد بالجاهلية، تعلو بالرجال أنسابهم وتقدِّمهم أصولهم، وُلد الفتى زياد بن أبيه، تتباين الروايات في تاريخ مولده، وإن كانت ترجح أن ذلك كان في العام الأول من الهجرة، في الطائف؛ إذ كانت أمه جارية للحارث بن كلدة الثقفي، وهو أشهر أطباء العرب في ذلك الوقت، وكانت مولاة لصفية بنت عبيد بن أسد الثقفي.
«لو كان قرشيًّا لساق العرب بعصاه»
عرف الفتى أمه، لكنه لم يعرف أباه على وجه اليقين أبدًا، ظل نسب زياد طيلة حياته – وحتى بعد وفاته كما سنسرد في السطور اللاحقة – تتنازعه روايتان: الأولى أنه ابن أحد موالي ثقيف ويدعى عبيد، الذي تزوج بسمية أم زياد، أما الرواية الأخرى فتنسبه إلى أبي سفيان بن حرب؛ إذ تذكر أن أمه – وكانت من أصحاب الرايات الحمراء في الطائف – قد جامعت أبا سفيان في إحدى رحلاته إلى الطائف، وأن ثمرة هذا الجماع كان زياد، الذي عرَّفه البعض لاحقًا باسم زياد بن أبي سفيان، وفي ذلك قصة سنرويها.
لذلك فإن من يحاول البحث عن أخبار زياد وسيرته عبر الشبكة العنكبوتية، سيجد أن المصادر تحتار في اسمه ونسبه، قد يدعونه أحيانًا باسم زياد بن عبيد، وأحيانًا باسم زياد بن أبي سفيان، وقد ينسبونه إلى أمه فيقولون زياد بن سمية، هذه الحيرة جعلت الكثيرين ينسبونه إلى أبٍ مجهول، فيُقال زياد بن أبيه، بغير تحديد، وهي الصيغة الأكثر شهرة والأكثر استخدامًا وبها اشتهر وعُرف.
لكن التاريخ وإن اختلف في نسب الفتى، فإن أحدًا لم يختلف في أنه قد نشأ فتى نبيهًا حاد الذكاء، أسلم وهو بعد مراهق في زمن خلافة أبي بكر الصديق، عُرفت عنه بلاغته وقوة لسانه، عنه يقول الشعبي: «ما رأيت أحدًا أخطب من زياد»، ويقول قبيصة بن جابر: «ما رأيت أحدًا أخصب ناديًا، ولا أكرم جليسًا، ولا أشبه سريرة بعلانية من زياد».
طالع أيضا: قصة الصحابي الوحيد الذي ذُكر اسمه في القرآن الكريم
ومن دلالات نبوغه المبكر ما يُروى في بعض الروايات عن استعانة الخليفة عمر بن الخطاب به في تسوية فساد وقع في اليمن، وكانت ولاية تابعة للخلافة آنذاك، فلما أتم زياد مهمته، عاد فخطب في الناس خطبة عصماء، أثارت إعجاب الجميع، حتى قيل إن عمرو بن العاص، وهو من أدهى دهاة العرب حينها، قال عنه: «لو كان هذا الغلام قرشيًّا لساق العرب بعصاه».
ويقال إن أبا سفيان حين سمع منه ذلك قال: «والله إني لأعرف الذي وضعه في رَحِم أمِّه»، فسأله عليٌّ بن أبي طالب: «ومَنْ هو يا أبا سفيان؟» قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية. قال علي وما يمنعك أن تدعيه؟ فقال: أخشى الجالس على المنبر، وكان الجالس هو عمر بن الخطاب.
عمل زياد كاتبًا لأبي موسى الأشعري، وقيل إن الخليفة عمر بن الخطاب قد استعمله على بعض صدقات البصرة، ثم عزله بعد ذلك، فسأله زياد: «لم عزلتني يا أمير المؤمنين ألعجز أم لخيانة» فقال عمر: «لم أعزلك لواحدة منهما ولكنِّي كرهت أن أحمل فضل عقلك عن النَّاس»، يعني أن زيادًا كان مفرط الذكاء وفي ذلك خطر على الرعية «لما يتبع ذلك من التَّعسُّف وسوء الملكة، وحمل الوجود على ما ليس في طبعه» كما يذكر ابن خلدون في روايته.
زياد في شيعة علي بن أبي طالب
صار زياد من أصحاب علي بن أبي طالب، الذي تولى الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان. تسلم علي خلافة مفككة وبلادًا مضطربة، وكانت كثير من الولايات حينها تموج بالفتن والثورات، ومنها بلاد فارس وكرمان التي رفض أهلها دفع الخراج، وشقوا عصا الطاعة، وطردوا سهل بن حنيف، والي الخليفة، من البلاد.
جمع علي أصحابه واستشارهم فيمن يوليه أمر فارس لضبط أمورها وإخماد نيران التمرد فيها، فأشار عليه أحدهم بزياد معددًا فضائله: «ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صليب الرأي، عالم بالسياسة، كافٍ لما ولى؟»، فسأله علي: «من هو» قال: «زياد»، فما كان من الخليفة إلا أن أقر بقدرات زياد ومآثره قائلًا: «هو لها».
وجَّه علي بن أبي طالب زيادًا في بضعة آلاف إلى فارس وكرمان، فنجح في إخضاعها بالحرب تارة، وبالسياسة واللين والمداراة تارة أخرى، يروي الطبري في موسوعته معددًا قدرات زياد في سياسة البلاد وإخماد الثورات: «لما قدم زياد فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومناه، وخوف قومًا وتوعدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة فقتل بعضهم بعضًا، وصفت له فارس فلم يلق فيها جمعًا ولا حربًا، وفعل مثل ذلك بكرمان ثم رجع إلى فارس فسار في كورها ومناهم فسكن الناس إلى ذلك فاستقامت له البلاد».
«كان أهل فارس يقولون ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي» * الطبري في موسوعته متحدثًا عن زياد بن أبيه
تصاعد الخلاف بين الخليفة علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، والي الشام زمن الخليفة عثمان الذي رفض التسليم لعلي بالخلافة، وطالبه بالثأر لدم عثمان أولًا، وتطورت الأمور حتى صارت حربًا ضروسًا فشلت كل محاولات إخماد نيرانها، ظل زياد في صف علي، وفشلت كل محاولات معاوية لاستقطابه بالترغيب واللين تارة، وبالوعيد والتهديد تارة أخرى.
ولعل قدرات زياد العسكرية والسياسية التي كان يعلمها القاصي والداني، وصيته الذي ذاع بين الأمصار، هو الذي دفع معاوية إلى مكاتبته، يريد إفساد الصلة بينه وبين علي، فيما كان من زياد إلا أن رفض طلبه، وبعث بالكتاب إلى علي الذي رد بكتاب جاء فيه: «إنما وليتُك ما وليْتُك؛ وأَنتَ أَهلٌ لذلك عندي… وإِن معاوية يأتي المرْءَ من بين يديه ومن خلفه، فاحذره، ثم احذره، والسَّلام». فلما قرأَ زيادٌ الكتابَ قال: شهد لي أَبو الحسن وربِّ الكعبة.
ويروى في ذلك أيضًا أن معاوية وقت معركة صفين قد كتب إلى زياد يتوعده، فما كان من زياد إلا أن قام في الناس فخطب فيهم قائلًا: «إن ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق كتب إلى يتوعدني، وبيني وبينه ابن عم رسول الله في تسعين ألف مدجج من شيعته، أما والله لئن رامنى ليجدني ضرابًا بالسيف».
أحداث وقعت في رمضان.. طارق بن زياد يقود المسلمين لدخول الأندلس في 92 هجرية
زياد «يبدل جلده» وينضم لجبهة معاوية
ظل زياد على ولائه لعليٍّ حتى توفي، لكن ذلك الصمود لم يدم طويلاً، فسرعان ما صفت الأمور لمعاوية؛ إذ تنازل الحسن بن علي له عن الخلافة، فتحصن زياد بقلعة مدينة اصطخر، لكن معاوية لم يكن ينوي قتاله، بل كان يدبر له خطة أخرى، أعطى معاوية لزياد الأمان أن يأتيه، وطلب منه أن يقدم عليه، فوافق زياد لتبدأ بين الرجلين رحلة وثيقة من التحالف بعد العداوة.
«امتنع زياد، وهو فقعة القاع، لا عشيرة ولا نسب ولا سابقة ولا قدم، فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة، وحتى أرضاه وولَّاه» * ابن حزم واصفًا زياد بن أبيه.
اقتضى الاتفاق أن يلحق معاوية زيادًا ببيت آل سفيان، أي أن يعلن بنوته لأبي سفيان ويعده أخًا له، وهو ما تم بالفعل، بعدما شهد على ذلك نفر من الناس، شاع في الناس الخبر، واستنكره الكثيرون، حتى ذاع بين الناس أبيات من شعر تستهجن خطوة معاوية جاء فيها:
أَلَا أَبْلِغْ مُعَاوَيَةَ بْنَ صَخْرٍ * فَقَدْ ضَاقَتْ بِمَا تَأْتِي اليَدَانِ
أَتَغْضَبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ عَـفٌّ * وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ * كَرَحْمِ الفِيل مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان معاوية يخطط للاستفادة القصوى من قدرات زياد الإدارية والسياسية، وحزمه وصرامته في تثبيت دعائم إمبرطوريته الوليدة، نصب معاوية أخاه الجديد واليًا على البصرة، ثم ضم إليه بعد ذلك ولاية الكوفة، فكان يقسم العام بين الولايتين، يقيم ستة أشهر بالبصرة، ومثلها بالكوفة، وضمن إليه كذلك بلاد خراسان والبحرين وعمان، فاستقام الأمر لمعاوية في تلك البلاد بفضل مواهب زياد وقدراته في الإدارة والتنظيم وكبح جماح الثورات.
ويحكى أنه أول ما ولي البصرة، وكان الفساد فيها ظاهرًا والاضطراب متفشيًا، جمع الناس فخطب فيهم خطبة صارمة تذهب العقول وتروع القلوب، لم يبدأها بحمد الله أو الصلاة على رسوله كما كانت تجري العادة، ولذلك سميت «الخطبة البتراء»، وهي من أشهر الخطب التي لا يزال يتناقلها اللسان العربي حتى الآن بوصفها عنوانًا للبلاغة وحسن البيان، ومما جاء فيها:
«أما بعد: فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغيّ الموفى بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام ينبت فيه الصغير ولا ينحاش عنها الكبير كأنكم لم تقرؤوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من ثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته».
ثم مضى في تهديده قائلًا: «حرام علي الطعام والشراب أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا، أنى رأيت أنَّ هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني لأقسم بالله لآخذن الوالي بالمولى، والقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: انج سعدًا فقد هلك سعيد، أو تستقيم قناتكم، وقد أحدثتم إحداثًا وأحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قومًا أغرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه ومن نقب نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه فيه حيًّا».
فقام إليه أحد الحضور معترضًا: «أنبأنا الله بغير ما قلت؛ قال الله ﴿ألا تزر وازرة وزر أخرى﴾ وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر». فسمعها زياد، فقال : «كأني بك من الخوارج.. إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضًا»، يعني بذلك أنه سيسلك في التنكيل بالخوارج ومحاصرتهم كل مسلك، حتى لو اضطره ذلك إلى استخدام وسائل غير «شرعية».
ولعل تلك الكلمة الأخيرة تلخص منهج زياد في الحكم والإدارة، فغاية حفظ الحكم والسلطان عنده تبرر كل وسيلة قمع أو قسوة، وقد مضى زياد على هذا النهج حتى مع رفاقه السابقين شيعة علي بن أبي طالب، الذين كان زياد نفسه في صفهم قبل سنوات قليلة، لكنه اليوم صار عدوًّا لهم، اتبع زياد بتوجيه من معاوية سياسة صارمة ضد أنصار علي، فيُروى أنه «كان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام علي بن أبي طالب فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطاردهم وشردهم عن العراق»، كما يروى الطبري في تأريخه لتلك الحقبة.
ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما وقع مع حجر بن عدي، الذي كان من شيعة علي، وكان يغضبه ما يرى من ولاة الأمويين من سب علي وأنصاره على المنابر، فجاهر بمعارضته علنًا، والتف حوله الناس، وحار زياد في أمره؛ إذ لم يفلح معه التهديد والوعيد، ولا الملاطفة والتهدئة، فأرسل زياد إلى معاوية يؤلبه على حجر وأصحابه ويعظم له الأمر وينذره بثورة تلوح في الأفق، فطلب إليه معاوية أن يرسل إليه حجرًا وأصحابه لينظر في أمرهم بنفسه.
هدد زياد قبائل الكوفة التي ينتسب إليها حجر وأصحابه، ووصل به الأمر إلى اعتقال الصحابي عدي بن حاتم الطائي ونفيه لأنه رفض تسليم أحد أبناء عمومته، وقبض زياد على حجر وعلى 12 من أصحابه وأرسلهم إلى دمشق مكبلين في الأصفاد، ليصدر معاوية أمرًا بقتل حجر بن عدي وستة من أصحابه على مشارف دمشق، ومن المفارقات أن البقعة التي أُعدم حجر فيها، هي نفسها التي دخلها بنفسه فاتحًا؛ إذ كان قائدًا للسرية التي فتحت تلك المنطقة قبل سنوات.
ويُذكر أن زيادًا قد بعث إلى معاوية ذات مرة قائلًا: «يا أمير المؤمنين إني قد ضبطت العراق بيميني ولا تزال شمالي فارغة»، يقصد بذلك أنه يريد ولاية الحجاز كذلك، فلما بلغ ذلك الخبر الصحابي عبد الله بن عمر، فزع فزعًا شديدًا، ودعا الله أن يعجل بموت زياد قبل أن يحقق أمنيته، وقد كان، فقد مات في الكوفة سنة 53 هجرية، ويروى عنه أنه قال لبنيه نادًما ساعة وفاته: «ليتَ أَباكم كان راعيًا في أَدناها وأَقصاها ولم يقع بالذي وقع به».
دارت دورة الزمان على زياد وآله بعد وفاته، فسقط ملك بني أمية، وحل محلهم خلفاء بني العباس، وفي سنة 160 للهجرة، أمر الخليفة العباسي المهديُّ بإرجاع آل زياد إلى أنسابهم الأصليَّة، وقيل في سبب ذلك، إنَّ رجلًا من آل زياد جاء إلى المهديِّ فسأله المهديُّ: «من أنت؟» فقال : «ابن عمِّك» فقال المهديُّ: «ومن أي أبناء عمومتي أنت؟» فذكر له نسبه، فعند ذلك غضب المهديُّ وقال: «يا ابن سميَّة الزانية، متى كنت ابن عمي؟». ثم كتب المهديُّ إلى عامله بالبصرة، بإخراج جميع آل زياد من ديوان قريش والعرب، وإرجاعهم إلى ثقيف.
مواقع إلكترونية / إسبانيا بالعربي.