العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء الثاني (الغزو العربي المزعوم)
اخبار إسبانيا بالعربي
كرونولوجيا المراحل الرئيسية للتوسع العربي حسب الرواية الكلاسيكية للتاريخ. زحف الغزاة نحو الغرب. الهجمات على تونس. الاستيلاء على شمال إفريقيا.
كان الشرق الأوسط في بداية القرن السابع الميلادي يعيش على وقع صراع طويل حصد الأخضر و اليابس بين البيزنطيين بقيادة هرقل و الفُرس بزعامة ملك الملوك كسرى الثاني برويز (المُظفَر). كانت الحرب, التي بلغت 100 سنة, سجالأ بين الإمبراطوريتين و حولت المناطق التي دارت فيها إلى خراب: مصر, فلسطين, سوريا, بلاد الرافدين, مناطق كانت تسكنها شعوب متباينة الأصول و الموروث الثقافي. كانت الخسائر المادية تتزايد نتيجة الفوضى العارمة التي أحدثتها التركيبة الدينية المُعقَّدة و التي بلغت ذروة أزمتها آنذاك. و ما زاد الطين بلّة و الطنبور غُنة, تعرُّض المنطقة لتغير مناخي واسع النطاق أحدث تقلبات اقتصادية خطيرة أدت لتصاعد نزوح البدو الرحل من السهوب المُستنزَفة و هيامهم في فيافي الصحراء. باختصار, كان هذا الجو بالمنطقة يشير لقرب حدوث هزة عنيفة. هذه الهزة سيُحدثها رجل بسيط اسمُه مُحَمد.
طالع أيضا العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء الأول (مقدمة)
أربكت جسامة الأحداث و سُرعة البرق التي جرت على نحوها المؤرخين الذين تلقى معظمهم تعليما مدرسيا جامدا تمرَّنوا خلاله على ماضي الأمم الأوربية التي نادرا ما اكتست صراعاتها السياسية أهمية و بُعدا عالميين, فكانوا عاجزين عن فهم تلك الموجات العميقة التي غيرت مجرى التاريخ. مِثل الغريق المُتشبِّت بقشة طافية يرى فيها خلاصه, تشبت هؤلاء المؤرخون ببقايا وثائق نجت في شبه معجزة من بطش القرون و لم يُجهدوا أنفسهم في تفحصها و التحري عن قيمتها كدليل تاريخي. كما كانت تعوزهم الخبرة اللازمة لوضع الأحداث المسرودة في سياق التطور البشري, فلم تتوفر لهم دوما المفاتيح لتفسيرها أو على الأقل الوصول لفهم تقريبي لها. هكذا إذن وصفوا التوسع الهائل للإسلام اعتمادا على الحوليات العربية التي غنَّى فيها كل إخباري على ليلاه بعد مرور وقت طويل على الأحداث المسرودة و في عصر فقد فيه هذا الدين مرونته الأولى. غُشيتِ أبصارهم فلم ينتبهوا إلى أن نصوصهم تتعارض و أبسط بديهيات التفكير المنطقي. نُفخت الطائفة الحجازية الصغيرة حتى أصبحت دولة عُظمى, و تحوَلت دعوة محمد إلى دبابة عسكرية خارقة تجتاح حتى أبعد الحدود.
طالع أيضا دبلوماسي من البيرو يكتب: مساهمة اللغة العربية في اللغة الإسبانية
هكذا إذن دُوِنت الوقائع في أكثر الكُتب ثقة و اعتمادا:
في بداية القرن السابع, بينما كان الفُرس يُحققون بعض النجاحات على حساب البيزنطيين و احتلوا دمشق و القدس عام 614م و مصر عام 620م, بدأ محمد يدعو قبيلته قريش إلى دين التوحيد. عام 622م, هاجر من مكة إلى المدينة. في السنوات التالية كان يُعد العُدة مع صحابته للعودة إلى المدينة المُقدسة. في عام 630, شن هجوما على مكة و استولى عليها بقوة السلاح. تُوفي بعد سنتين. اتبع أنصاره تعاليمه من بعده و على رأس جيش خارق القوة قاموا بسلسلة من الغزوات الناجحة جعلت منهم أسياد نصف العالم…عام 635م سيطروا على كامل سوريا. عام 637 استولوا على قطيسفون (قرب بلدة المدائن العراقية) و عام 639 على القدس و فلسطين. بين 639 و 641 أصبحوا أسياد كامل بلاد الرافدين, و دخلوا إيران ما بين 640 و 643م. في عام 647 استولوا على طرابلس الغرب, و بعد سنتين حطوا بجزيرة قبرص. عام 664 اجتاحوا البنجاب, و عام 670 أخضعوا شمال إفريقيا. ما بين 705 و 715 بلغ حكم الوليد بن عبد الملك وادي السند (باكستان و جزء من الهند). ما بين 711 و 713 انقضوا على شبه الجزيرة الإيبيرية و استولوا عليها. عام 720 استسلمت ناربونة (في فرنسا), و عام 725 وَصلوا إلى أوطون Autun (فرنسا). و في الأخير, يوم 25 أكتوبر 732 سُحِقوا في بواتييه Poitiers على يد شارل مارتل (في معركة بلاط الشهداء).شيد العرب في ظرف قرن واحد فقط إمبراطورية تمتد تقريبا على مساحة 15 ألف كلومتر, و ظلت مستمرة في التمدد عبر سهول آسيا الوُسطى. مُقارنة بهذا التمدد الخاطف, تبدو إنجازات توسع الإمبراطورية الرومانية و انتشار النصرانية مُجرد أعمال من الدرجة الثانية.يجد المؤرخ نفسه فجأة أمام هذه الوقائع و الأحداث الفريدة من نوعها في التاريخ, فماذا هو فاعل إذن؟ إذا اطلع على وسائل الاتصال و المواصلات المُتاحة آنذاك يُصيبه الذهول. كانت هذه الملحمة البطولية تتجاوز الإمكانات البشرية و حدود المنطق, و لم يجد أنصار الإسلام أمام هذا الواقع سوى الجزم بأن ما تمَّ كان بفضل العناية الربانية التي آزرت أتباع مُحمد. و لمّا كانت الأمور بهذا الشكل, فقد رُفعت الأقلام و جفت الصُحُف: لقد أزاح المُسلمون من كان قبلهم بفضل من هو على كل شيء قدير. لم يكن إذن اليهود و لا النصارى وحدهم شعوب الله المختارة. في نظرياته حول التاريخ الكوني لم تُفلِح بلاغة الأديب الفرنسي و رجل الدين الكاثوليكي جاك بنيني بوسيي Jacques-Bénigne Bossuet في إخفاء هذا الأمر البديهي: “بخصوص بركات العناية الرباهنية, لقد تجاوزت المُعجزة المُسلِمة بشكل رهيب المُعجزة النصرانية”.
طالع أيضا ماذا تعرف عن مدينة قرطبة؟ وكيف ومتى سقطت من يد المسلمين؟
لم تُثِر السمة العجيبة لهذا التوسع الخاطف للإسلام أي اعتراض, لا من جهة المؤرخين و لا من جهة المُختصين أنفسهم, الذين اكتفوا بإبراز طابعه المُدهش (1).إلى يومنا هذا, لم يضع أي أحد صحة هذه الروايات على محك التشكيك. عبر كل المراجع التي طالعناها – و التي للأسف لم تُشبع الموضوع بحثا- لم نجد إلا رأيين اثنين يُعارضان ما يُمكن تسميته بالتاريخ الكلاسيكي: دراسات الألماني شبينكلر Spengler التي وَضعت المُشكل في ميدانه الحقيقي, و شكوك الجنرال بريموند Brémond حول الغزوات المتتالية و المتزامنة. تُعتبر آراء هذا الجنرال, من وجهة نظر عسكرية, مرجعا مُعتمدا لأنها ثمرة دراية تطبيقية بالحجاز و تجربة عسكرية بالصحراء. كلا الدراستان مُعززتان بجُرعة وافية من التفكير المنطقي (2).
طالع أيضا كيف عاش الأندلسيون في عصر أمراء الطوائف؟ إليك التفاصيل
من أجل وضع تصوُّر أكثر عقلانية لهذا التحول الاجتماعي و الثقافي الهائل – تصوُرٌ سيُمكننا من بلوغ مرادنا- علينا التركيز على تحليل توسع الإسلام نحو الغرب. معارفنا حول جغرافية و تاريخ هذه المناطق ستعيننا على تفكيك تركيبة الخرافة. عند زوال هذه الغشاوة سيكون من الممكن حينها نقل الأحداث إلى صعيدها البشري. لن نُغامر بالتوغل في متاهة الشرق الأوسط, مع أن توسع تطور الأفكار الدينية في آسيا و تحليل الأحداث الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية قد تضطرنا لطرح استفسارات لا تتطابق و أبعاد كتابنا هذا. أما الآن و اعتمادا على آخر الأعمال في الميدان سنتحرى تفاصيل موكب الفرسان المسلمين المتجه نحو الغرب.
طالع أيضا بلدة “الحسين” الإسبانية.. غاب المسلمون فحافظ الإسبان على الاسم
وفق ما ورد في الحوليات, استولى العرب على معقل الإسكندرية حوالي سنة 642م و أكملوا بالتالي السيطرة على مصر؛ كان هذا البلد غنيا منذ القدم و كانت لأهله ثقافة و لغة خاصة بهم, كانوا نصارى مونوفزيين Monofisitas (نصارى مؤمنون بوحدانية طابع المسيح) و لُقبوا بالأقباط لتمييزهم عن رعايا الإمبراطورية البيزنطية الذين كانوا يشكلون أقلية تتحدث الإغريقية. يُقدر عدد سكان مصر آنذاك ما بين 18 و 20 مليونا (3).إذا كانت الأمور بهذا الشكل, فالغزاة العرب القادمون حديثا من الصحراء وجدوا أنفسهم في وضعية مُزعجة للغاية, فقد طَفوا فجأة بعدد قليل على أرض مصر وسط شعب ينتمي لعِرق آخر و حضارة مختلفة عنهم. كما أن المصريين كانوا مزارعين و قد بيَّن لنا التاريخ التناقضات العميقة التي باعدت دوما بين أهل البدو و أهل الحضر. على أي حال, يُرادُ إقناعنا بأنه انطلاقا من هذه القاعدة المصرية الغير مستقرة استطاع العرب الاستيلاء على تونس الواقعة عاصمتها قرطاج على بعد 3 آلاف كيلومتر من الإسكندرية. لقطع هذه المسافة الطويلة جدا كان لزاما عليهم عبور الصحراء الليبية المُصنفة آنذاك ضمن المناطق الأكثر خطورة على وجه الأرض. حسب التاريخ الكلاسيكي, استحوذ الغُزاة المحمديون على شمال إفريقيا بسهولة فائقة, غير أن أبحاث المتخصصين الأخيرة تدل على أن غزو تونس لم يكن نزهة البتة و أنه تم السيطرة عليها بعد 5 حملات عسكرية امتدت من عام 647 إلى 701م, ذلك و تفاصيل الغزوة الأخيرة التي سمحت بالسيطرة على البلاد بقيت مجهولة.
طالع أيضا “لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ”: أجمل ما قاله شعراء الأندلس في رثاء المدن المفقودة
* الحملة الأولى: في عام 642م, كان الإكسارخوس (محافظ الولاية) غريغوريو Gregorio يحكم منطقة تونس التابعة آنذاك للإمبراطورية البيزنطية. لأسباب غامضة (ربما دينية) استقل عن حكم الامبراطور قنسطانيوس الثاني. استغل حاكم مصر عبد الله ابن سعيد الفرصة السانحة – و ربما كان متواطئا مع غريغوريو – و جرب حظه بالزحف نحو الغرب. هكذا اجتاح تونس ب 20 ألف رجل, و هو رقم يبدو مبالغا فيه, و بعد نهبها أو قيامه بمهمة ما عاد أدراجه إلى ضفاف النيل.
طالع أيضا: ما الذي تبقّى من جينات المسلمين في إسبانيا اليوم؟ إجابة صادمة
* الحملة الثانية: شهد عام 665م حملة أخرى لا يُعرف عنها شيء, لكن الوضع بعدها لم يتغير و ظل على حاله.
* الحملة الثالثة: ظهر سيدي عُقبة (بن نافع) حوالي عام 670م, و يُقدَّم عموما على أنه فاتح شمال إفريقيا, و هو أمر غير صحيح. لم يكُن سوى مغامر قام بغارة على المغرب فلقي حتفه خلالها. يقول جورج مارصي Georges Marçais, صاحب الأبحاث التي سترشدنا في هذا المجال: “بعد هزمه قُرب تلمسان لكُسيلة, زعيم قبيلة أوربة القوية, تحوّل هذا الأخير في تونس إلى الإسلام و أصبح حليفا و صديقا لعقبة” (4). في عام 670م, أسس عقبة قاعدة عسكرية في القيروان ستتحول فيما بعد لأهم مدينة في المنطقة. مَزهُوًا بنجاحاته, اتحه نحو الغرب و يُقال أنه وصل إلى وسط المغرب و ربما للمحيط الأطلسي. لكن و بما أنه لم يكن مرتاحا لتواجده هناك قرر العودة لقواعده التونسية, فصادف ذلك أن العداوة اندلعت بينه و بين كسيلة بسبب إهانته الشديدة له, فكمِن له في تهولة Tehula غير بعيد عن بسكرة (الجزائر), فقُتل الفاتح عقبة. هكذا استولى كُسيلة على القيروان و حكمها من عام 683 إلى 686م.
طالع أيضا: 8 عادات إسبانية غريبة تفاجئ الأجانب والسياح أثناء زيارتهم البلد
* الحملة الرابعة: نجا زهير ابن قيس, أحد قادة جيش عقبة, من المجزرة و استطاع تجميع الجيش و مواجهة الزعيم البربري . دارت معركة طاحنة في مَنّس حوالي سنة 686 قُتِل خلالها كُسيلة. لكن القائد العربي لم يشعر بالأمان فعاد أدراجه إلى مصر, لكن في طريق العودة, و قرب برقة, باغثته حملة بيزنطية نزلت للتو من السفن و قد نفذ زاد جيشه لطول المسافة, فأُبيد الجيش و قُتل قيس.
* الحملة الخامسة: أخيرا, و في عام 693م, بعث الخليفة عبد الملك الحسن بن النعمان في حملة ضد بلاد البربر على رأس جيش مُكون من حوالي 40 ألف رجل (و هو أمر غير صحيح, لأننا نعلم معاناة الماريشال مونتغمري -خلال الحرب العالمية الثانية- في صحارى مصر و ليبيا و تونس. فرغم توفر الشاحنات الصهريجية كاد جيش بأكمله يُستنزف من شدة الجوع و العطش). المهم, و من دون أن يخبرونا كيف, استطاع العرب, بعد خيبات كثيرة سابقة, الاستيلاء على البلاد. سقطت قرطاج بيدهم عام 698, و بين 700 و 701 سُحق البربر في معركة تُجهل تفاصيلها. لقد دانت تونس نهائيا للعرب.
طالع أيضا: إسبانيا تقلص ساعات تدريس الدين وتزيد الرياضيات واللغات والفنون: ماذا عن تدريس التربية الإسلامية؟
لا يمكن للأحداث أن تكون أكثر غموضا. لن نُضيع الوقت في مناقشة مصداقيتها. و سنكتفي بإبداء ملاحظة واحدة تُحيلنا لاستنتاج لا ينتطح فيه عنزان: لم يستطع الغزاة الاستسلام للدعة و الاستجمام في تونس, فقد كان عليهم المكوث على صهوات جيادهم لغزو كل شمال إفريقيا, فبعد 10 سنوات فقط, أي عام 711م, عليهم التواجد في وادي لُكة في جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية, هذا ما أخبرنا به المؤرخون.
لم تكن المسافات في المغرب قصيرة, فقرطاج تبعد عن طنجة ألفا كلمتر. حسب العلامة الجغرافي البكري, كانوا في حاجة ل 40 يوما للذهاب من القيروان إلى فاس, أما إن اختاروا الطريق الساحلية, و هي الطريق المؤدية للمضيق و للسواحل الإسبانية فالمدة كانت أطول (5). بل إنهم يريدون إقناعنا بأن موسى بن نصير استطاع تحقيق إنجاز الاستيلاء في وقت قصير على هذه المنطقة الشاسعة و المعقدة بتضاريسها الجبلية و التي يقطنها أقوام محاربون برهنوا عبر التاريخ على نجاعتهم العسكرية. حسب جورج مارصي, مؤرخ البربر المعاصر, لم تمر الأمور بسلام: “بدأت عملية إلحاق هذه الأقاليم عام 674, و يمكن اعتبار تاريخ نهايتها عام 710م. تطلب الأمر على الأقل 53 سنة للخروج بنتيجة غير مستقرة, فعصر القلاقل لم ينته بعد, و سيستمر حتى بداية القرن التاسع الميلادي, أي أكثر من 150 سنة من الصراعات المفتوحة و العداوات الكامنة, قرن و نصف عانى فيه الغزو الإسلامي نكسات و انهيارات حقيقية جعلت مصير الإسلام في الغرب على المحك. وقع هذا الأمر مرتين على الأقل حسب ما وصلنا من أخبار, كانت المرة الثانية في منتصف القرن الثامن لما استرد البربر البلاد. فكان على العرب بداية كل شيء من جديد” (6)
طالع أيضا: خايين: إطلاق مشروع لترميم الحمامات العربية
إذا أخذنا في الحسبان هذه الملابسات يأتي التساؤل الجوهري: هل كان العرب في وضع يسمح لهم باجتياح إسبانيا عام 711م, بينما كانوا في حاجة ل 100 سنة لتثبيت الاستقرار بشمال إفريقيا؟ لم يُثِر التحري عن هذا الأمر اهتمام المؤرخين, فقد وجدوا من الطبيعي أن يعبر الغزاة العرب مضيق جبل طارق و يحتلوا شبه جزيرة إيبيريا في لمح البصر, أي 584 ألف كلمتر مربع و أكثر منطقة جبلية في أوربا, في ظرف 3 سنوات. ستزداد المعجزة إدهاشا إذا علمنا عدد الغزاة الذي تشير إليه بكل دقة الحوليات المسلمة. 7 آلاف رجل كانوا كافين لطارق لسحق جيش لوذريق في معركة وادي لٌكة, قبل أن يلحق به بعد ذلك موسى على رأس جيش من 18 ألف رجل, ربما بسبب غيرته من نجاحات تابعه طارق و أيضا حتى يتسنى للإسبان رؤية وجوه هؤلاء الزوار الغرباء. إذا لم تخنّا الرياضيات فكل غاز عربي, من ال 25 ألف, نال 23 كلم مربع. و بما أن إسبانيا لم تكن تكفي هؤلاء الأبطال العظماء فقد تهافتوا على عبور البرانس للسيطرة على فرنسا.
طالع أيضا: إسبانيا تعثر على 400 قبر لمسلمي الأندلس قبل 1300 عام
فتَحَ نصر طارق أبواب الجزيرة الإيبيرية على مصراعيها للآسيويين الذين احتلوها دون صعوبات. فحدث حينها تحول مدهش شبيه بتغيير الديكور أثناء عرض مسرحية. لاتينية أصبحت إسبانية عربية. نصرانية فاعتنقت الإسلام. من نظام الزوجة الواحدة, و من دون احتجاج النساء, اختارت نظام تعدد الزوجات, و كأن الروح القدس أعاد إنزال الشريعة, فاستيقظ الإسبان ذات يوم و لسانهم يتحدث لغة الحجاز, و يرتدون أزياء أخرى و يمارسون عادات أخرى و يستعملون أسلحة أخرى. إنها ليست مزحة, فجميع المؤرخين متفقون على العدد الذي لا يُحصى من النصارى, الذين يُطلق عليهم المُستعرَبون, و الذين كانوا يعيشون تحت السيطرة الإسلامية, بينما كان عدد الغزاة 25 ألف شخصا لا أقل و لا أكثر. فما الذي وقع للإسبان إذن؟
طالع أيضا: الاستعراب الإسباني.. قراءة التاريخ بعيون غربية أم استرجاع لزمن التعايش الحضاري الأندلسي؟
افتح الجزء الأول من كتاب “تاريخ المسلمين في إسبانيا” لليفي بروفنسال و المنشور عام 1950. يبقى هذا الكتاب مهما رغم عدم فهمه هو الآخر “للمعجزة”. يَبسُطُ المُؤلف بالتفصيل الصراعات التي خاضها العرب فيما بينهم منذ أن وطئت أقدامهم شبه الجزيرة الإيبيرية. كل قبائل الجزيرة العربية كانت حاضرة: القيسيون, الكلبيون, المُضريون, اليمنيون…إلخ, عداواتهم و ضغائنهم الأزلية كانت شرسة, خانوا بعضهم, تقاتلوا فيما بينهم, و عذبوا بعضهم بسادية. كان الصراع رهيبا و الفوضى عارمة. لقد عمت البلبلة كل البلاد.
في النهاية وصل أموي للساحل الأندلسي. كان ينتمي للأسرة الأكثر عراقة في مكة و قد حكم أجداده الإمبراطورية المسلمة. كان إذن ساميا صِرفا, لكنهم يصفونه لنا بالأوصاف التالية: طويل, أزرق العينين, أحمر الشعر, أبيض البشرة, باختصار مواصفات رجل جرماني. لم يقف أحد في وجه طموحاته نظرا لعرقه الملكي العربي, و ارتمى بكل كيانه في معترك الحرب الأهلية الدائرة آنذاك منذ 40 سنة. كانت سلطته المعنوية غير ثابتة مثل شكله الجسدي. لقد مكَّنته موهبته العسكرية من تحقيق بعض النجاحات ما أهله لتبوء منصب أمير جامع قرطبة (عام 765). رغم شجاعته و بسالته وجد نفسه مضطرا للقتال طيلة ما تبقى من حياته. لم يُدرك راحته إلا بوفاته عام 788م.
طالع أيضا: ماذا تعني كلمة الأندلس؟
بعبارة أخرى, لاقتسام الغنائم التي ظفروها خلل غزوهم كان على العرب التصارع بينهم طيلة 60 سنة. كانت آنذاك شبه الجزيرة ذات كثافة سكانية عالية و موزعة بشكل أفضل من العصور السابقة, و يُقدر عددهم آنذاك بين 15 و 20 مليونا (7). إذا أخذنا في الاعتبار العدد الضئيل للغزاة فإننا نستغرب كيف لم يفنوا في تلك الحروب الأهلية الطويلة بينهم. ثم, ماذا كانت تفعل تلك الملايين من الجماهير الإسبانية؟ يقول التاريخ الذي ترويه الحوليات و تصفه الكتب و يحلله الكُتاب الحاليون أن الإسبان قد اختفوا, و لا وجود إلا للعرب. و هنا يأتي التساؤل, هل يُمكن اختطاف كل تلك الملايين من البشر بين ليلة و ضحاها و إخفاؤها مثل عُملة بين يدي لاعب خفة؟
ستكون مهمة شاقة و عملا صعبا جدا لو أن الغزاة ذبحوا فردا فردا سُكان شبه الجزيرة الإيبيرية مثلما تروي لنا الحوليات اللاتينية. لم تكن آنذاك وسائل سريعة للقيام بإبادات جماعية على نطاق واسع. من جهة أخرى كانت المضايق و الأخاديد الأشتورياسية عاجزة عن تحمَُل أمواج بشرية هائلة نازحة إليها من الجنوب, كما تروي لنا كتب التاريخ. هي إشكالية تاريخية إضافية رأى المؤرخون ضرورة السكوت عنها لكونها مُحرجة, فبقيت إلى اليوم بلا حل. إذا كان إذن غزو إسبانيا يبدو غير معقول, و إذا افتٌرض وجود إسبان, كيف يمكن تفسير اعتناقهم للإسلام و استيعابهم للحضارة العربية؟
طالع أيضا: السمح بن مالك.. لماذا هاجم أمير الأندلس جنوب فرنسا؟
لقد خلقت دوما المسافة الشاسعة الفاصلة بين الجزيرة العربية و إسبانيا إضافة لعدد الغزاة الضئيل جدا ارتباكا لدى المؤرخين, لأن الموضوع لم يتم وضعه أبدا في نطاقه الصحيح. حتى ذلك العهد, كانت تدور المعارك بأعداد قليلة من المقاتلين, فدون وسائل نقل فعالة كان القادة يُفضلون عدم عرقلة سير تكتيكهم العام باصطحاب وحدة ضخمة خاصة بتوفير حاجيات الجنود. كانت الجيوش آنذاك تقتات على ما تجده في طريقها. فإذا كان عدد الجنود كبيرا, فإنهم يواجهون خطر الموت جوعا و عطشا. في هذه الظروف دارت معركة وادي لكة بين عدد قليل من المقاتلين, و لم تكن بالتالي معركة مفصلية أسطورية كما صورها المؤرخون. كان من الضروري شرح كيف أن هذه المناطق المعزولة و المُغلقة و المُشكَلة للجزيرة الإيبيرية تحولت في وقت قياسي و على يد قلة من “السحرة”. ثم إن هناك إشكالية كبرى أخرى: ألا يخبروننا اليوم أن هؤلاء الغزاة كانوا متعددي الجنسيات؟ كان العرب, حسب الحوليات المسلمة, أقلية, بينما كانت الغالبية من السوريين, البيزنطيين, الأقباط و خصوصا البربر. لقد شدًَدت النصوص التاريخية على تركيبة الغالبية العظمى من الغزاة, و منها نخرج بالاستنتاج الغريب التالي: غزا إسبانيا و عرَّبها أقوام كانوا لا يتحدثون العربية, فالمغرب آنذاك لم يكن له الوقت لتعلمها, و حولها للإسلام دُعاة و وُعاظ يجهلون, لنفس السبب, القرآن.
طالع أيضا: بشهادة العلماء الإسبان: هذه هي عجائب مزج المسلمين الفن والرياضيات في بناء قصر الحمراء
مهما كان الحال, بمنطق الرياضيات الذي لا يُخطئ, كان هذا الجيش الغازي سيذوب كقطعة سكر في كوب ماء لو توزعت وحداته على مناطق البلاد. في المُقابل, كيف إذن يمكن تفسير سيطرتهم على البلاد على قلتهم؟ كيف سيكون الوضع لو أن الأسبان خاضوا أدنى مقاومة ممكنة؟ أعتقد أننا عرفنا الآن لماذا اختار المؤرخون عدم وضع الأصبع على الجرح. لقد تجاهلوا كل ذلك و سكتوا عنه في تواطؤ مشترك و اختاروا ترك الإسبان نياما في جهلهم طيلة قرون.
الهوامش:(1) “الظروف التي سمحت بالاستيلاء على إسبانيا و طابعها المُثير كغزوة ضخمة, دائما ما قضّت شيئا ما مضجع مؤرخي القرون الوسطى. إلى اليوم, تبدو للبعض المصيبة التي أهدت للإسلام, ليس منطقة آسيوية أو إفريقية, بل جزءا من أوربا الغربية, غير عادية و لا ترتبط بالطور الطبيعي للأشياء و تدخُل في إطار المُعجزة التاريخية” ليفي بروفنسال.”Histoire des musulmans d’Espagne.” Maisonneuve. Paris, 1950. T1. p2
(2) أوسفالد شبينغلر Iswald Spengler”تدهور الحضارة الغربية” الجنرال بريموند Gerneral Brémond “البربر و العرب” “Berberes et arabes. ينتقد هذا الكتاب صراحة الطابع العسكري للتوسع العربي دون أن يُحاول تفسير ما حدث.
(3) “نملك رقما دقيقا: كانت الجزية السنوية للفرد من الرجال البالغين دوقتين, حُصِّل في العام الأول 12 مليون دوقية”. (ها هي 6 ملايين فقط من الذكور البالغين).
الجنرال بريموند Gerneral Brémond “البربر و العرب” “.P32) Berberes et arabes
(4) Georges Marcçais ” La berberie musulmane et l’orient au moyen Age” Paris, Aubier. 1946 P 32.
(5) البكري, وصف إفريقيا الشمالية, ترجمة سلان. الجزائر 1913. حسب العلامة البكري, كان المسافر في عصره يستغرق من القيروان إلى فاس عبر الطريق الداخلية 40 يوما و يمر عبر المحطات التالية: سُبيبة, مجانة, تبازة, بغاي (خنشلة), بلزمة (باتنة), و هنا عليه أن يختار بين مواصلة الطريق نحو طُبتة (بريكة) و منها إلى تافيلالت ففاس, أو الانعطاف يمينا نحو المسيلة للذهاب لتاهرت ثم تلمسان ففاس. لكن بعد هجرات القبائل العربية الهلالية و استقرارها في هذه المناطق أصبح المسافرون و التجار يُفضلون الطريق الساحلية الأطول, و هذا ربما هو الطريق الذي سلكه الغزاة العرب رغم صعوبته, حيث كان عليهم عبور منطقة الريف كلها للوصول إلى المضيق.
(6) جورج مارصي..Georges Marcçais ” La berberie musulmane…” Paris, Aubier. 1946 P27 و ذكر في موضع آخر “من المُؤكد أنه في نهاية القرن الثامن كان الاحتلال المسلم لشمال إفريقيا على شفا جرف هار. 100 سنة قبل ذلك, عبر سيدي عقبة و موسى بن نصير كفاتحين من القيروان إلى المحيط الأطلسي. في العام 763, أراد الحاكم الأغلب التوغل في اتجاه تلمسان للوصول إلى طنجة, لكنه تخلى عن هذه الفكرة بسبب تمرد ضباط من حرسه الشخصي. هكذا فقد الخلفاء العباسيون السيطرة على ثلثي بلاد الأامازيغ و بدى ولاتهم أكثر انشغالا بتهدئة أوضاع مناطقهم من توسيع حدودهم” ص55.
(7) انظر بحث إيغناسيو أولاغي حول الديمغرافية الإسبانية و تطورها في كتابه Decadencia espanola I y IV
المصادر : كتاب Ignacio Olague إيغناسيو أولاغي, La revolucion islamica en occidente (الثورة الإسلامية في الغرب).منشورات مؤسسة خوان مارش. وادي الرملة. Fundacion Juan March. Guadarrama / هشام زليم / موقع إسبانيا بالعربي