من عبق التاريخ

من هم يهود الدونمة الذين أسقطوا الخلافة العثمانية؟

أخبار إسبانيا بالعربي – هناك مفاهيم عديدة لكلمة الدونمة، إذ إن الكلمة من الناحية اللغوية مشتقة من الكلمة التركية (دمونك) وتعني التذبذب والتردد، أما المفهوم الاجتماعي لهذه الكلمة فإنه يعني المرتد أو المتذبذب، بينما تعني هذه الكلمة من الناحية الدينية مذهباً دينياً جديداً، دعا إليه الحاخام ساباتاي زيفي، أما المفهوم السياسي لهذه الكلمة فإنه يعني اليهود المسلمين الذين لهم كيانهم الخاص.

وقد أطلق العثمانيون هذه الكلمة على اليهود الذين يعيشون في ولايات الدولة العثمانية وخاصة ولاية “سلانيك”، أطلق العثمانيون هذه الكلمة لغرض بيان وتوضيح العودة من اليهودية إلى الإسلام، ثم أصبحت علما على يهود الأندلس الذين لجؤوا إلى الدولة العثمانية بعد سقوط الأندلس، وتظاهروا بأعتناقهم للاسلام.

يهود الدونمة:

ومؤسس فرقة الدونمة هو ساباتاي زيفي الذي أدعى بأنه المسيح المنتظر في القرن السابع عشر، حيث انتشرت في تلك الايام شائعة تقول أن المسيح سيظهر في عام 1648م كي يقود اليهود في صورة المسيح وأنه سوف يحكم العالم في فلسطين، ويجعل القدس عاصمة الدولة اليهودية المزعومة وكانت فكرة المسيح المنتظر ذائعة عندئذ في المجتمع اليهودي، وكانت الأوساط اليهودية القديمة تؤمن بقرب ظهور هذا المسيح. ولذلك صادفت دعوة ساباتاي تأييداً كبيراً بين يهود فلسطين ومصر وشرق أوروبا، بل أيدها كثير من اليهود وأصحاب الأموال لأغراض سياسية ومالية.
وذاع أمر شبتاي في أوروبا وبولندا وألمانيا وهولندا وإنكلترا وإيطاليا وشمال أفريقيا وغيرها.

789 1
مؤسس الطائفة الدونمية ساباتاي زيفي ولد لأبوين يهوديين هاجرا من إسبانيا (مواقع التواصل)

وفي أزمير أخذ يلتقي بالوفود اليهودية التي جاءت من أدرنة وصوفيا واليونان وألمانيا، حيث قلدته هذه الوفود تاج “ملك الملوك” ثم قام ساباتاي بتقسيم العالم الى ثمانية وثلاثين جزءاً، وعين لكل منها ملكاً، اعتقاداً منه بأنه سيحكم العالم كله من فلسطين، حيث كان يقول في هذا المجال: (أنا سليل سليمان بن داود حاكم البشر وأعتبر القدس قصراً لي).

وقام ساباتاي بشطب اسم السلطان محمد الرابع من الخطب التي كانت تلقى في كنيس اليهود وجعل أسمه محل اسم السلطان، وسمى نفسه (سلطان السلاطين) و(سليمان بن داود) مما لفت انتباه الحكومة العثمانية.
وأصبح شبتاي مصدر قلق لكثير من حاخامين اليهود ورفعوا ضده شكوى الى السلطان ، أكدوا فيها أن شبتاي ينوي القيام بحركة تمردية في سبيل تأسيس دولة يهودية في فلسطين.

ونتيجة لإشتداد فتنة ساباتاي زيفي، أصدر الوزير القوي أحمد كوبرولو أوامره بإلقاء القبض عليه، وأودعه الوزير في السجن، وظل فيه لمدة شهرين ثم نقل إلى قلعة جزيرة غاليبولي على الدردنيل، وسمح لزوجته وكاتبه الخاص أن يتخذا لهما سكناً معه وأصبح له مجلس كمجلس الأمراء، لايدخل عليه إلا بإذن مسبق وينتظر الذين يريدون أن يتمتعوا برؤيته أياماً من أجل ذلك وأخذت زوجته تسلك سلوك الأميرات مع القادمين عليها والقادمات حيث كانت وفود يهودية من أنحاء العالم قادمين لزيارته.

حوكم ساباتاي في سراي أدرنة، حيث شكل السلطان هيئة علمية إدارية برئاسة نائب الصدر الأعظم وعضوية كل من (شيخ الاسلام) يحي أفندي منقري زادة وواحد من كبار العلماء وهو إمام القصر محمد أفندي وانلي، وقام بدور المترجم من الإسبانية إلى التركية الطبيب مصطفى حياتي.

أكد قاضي المحكمة، أن المسألة تعد بالنسبة للدولة العثمانية، وعلى مسمع من السلطان الذي جلس في غرفة مجاورة (وبواسطة الترجمان قيل لساباتاي تدعي أنك المسيح فأرنا معجزتك سنجردك من ثيابك ونجعلك هدفاً لسهام المهرة من رجالنا فأن لم تغرز السهام في جسمك فسيقبل السلطان ادعاءك. فهم ساباتاي ما قيل له فأنكر ما أسند إليه وقال إنهم تقولوا عليه)، فعرض عليه الإسلام فدخل فيه تحت اسم محمد عزيز أفندي، وطلب من السلطات العثمانية أن تسمح له بدعوة اليهود إلى الاسلام، فأذنت له وانتهزها فرصة فأنطلق بين اليهود يواصل دعوته إلى الإيمان به ويحثهم على ضرورة تجمعهم معلنين في ظاهرهم الإسلام مبطنين يهوديتهم المنحرفة.

وظل ساباتاي وأنصاره يتبعون دينهم سراً، ويمارسون العمل للصهيونية في الخفاء، ويظهرون الاخلاص للإسلام في العلن والصلاح والتقوى أمام الأتراك، وكان يقول لأتباعه إنه كالنبي موسى الذي اضطر أن يبقى مدة من الزمن في قصور الفراعنة.

وفي ظل هذه الظروف ألقي القبض على ساباتاي مع مجموعة من أتباعه في كنيس (قوري جشمه) الكائنة في داخل المعبد بسبب أنه كان مرتدياً زياً يهودياً وهو محاط بالنساء يشربون الخمر وينشدون الأناشيد اليهودية، وقراءة المزامير مع عدد من اليهود فضلاً عن اتهامه بدعوته المسلمين إلى ترك دينهم والإيمان به.

ولولا تدخل شيخ الاسلام لقطع رأسه، حيث اعترض على إعدامه قائلاً: (لو أعدم هذا المحتال سيكون سبباً لحدوث خرافة في الإنسانية، حيث يدعي مريدوه بعروجه إلى السماء كعيسى عليه السلام). فأكتفى بنفيه إلى مدينة دولسجنو في ألبانيا وذلك في صيف عام 1673م، وتوفى بعد خمس سنوات من نفيه وظلت عقيدة الساباتائية موجودة لدى فرق سالونيك، وتفنن أتباعه في ممارسة المكر والتعصب والتجرد من المبادئ، والأخلاق.

وقد نظم ساباتاي زيفي عقيدة الدونمة في ثماني عشرة مادة وفي الحقيقة تعد المادة السادسة عشرة والسابعة عشرة أهم سمات يهود الدونمة، إذ تشير المادة (16): (يجب أن تطبق عادات الأتراك بدقة لصرف أنظارهم عنكم ويجب ألا يظهر أحد من الأتباع تضايقه من صيام رمضان ومن الأضحية ولمن ينفذ كل شيء يجب تنفيذه أمام الملأ). أما المادة (17) فإنها تشير إلى الآتي: (إن مناكحتهم (يعني المسلمين) ممنوعة قطعاً)

إن ساباتاي يعد أول يهودي بشر بعودة بني اسرائيل الى فلسطين، وفي حقيقة الأمر، عدت حركة زيفي حركة سياسية ضد سلطة الدولة العثمانية أكبر من كونها حركة دينية.

لقد أسهمت هذه الطائفة بشكل أو بآخر في هدم القيم الإسلامية في المجتمع العثماني، وعملت على نشر الإلحاد والأفكار الغربية، ونشرت الماسونية، و دعت لهتك الحجاب وإنتشار الإختلاط في المدارس، وكان كثير من قادة جمعية “الإتحاد والترقي” ينتمون لهذه الفرقة ويشاركونها إحتفالها وأفراحها.

وقام يهود الدونمة بدور فعال في نصرة القوى المعادية للسطان عبد الحميد والتي تحركت من سلانيك لعزله وهم الذين سمموا أفكار الضباط الشباب ولايزالون حتى وقتنا الحاضر يسعون لذلك ولهم صحف ودور نشر وتغلغلوا في الاقتصاد العثماني وكل مناحي الحياة في الدولة العثمانية.

وقد استطاعوا أن يأثروا في جمعية الاتحاد والترقي، وكان السلطان عبد الحميد الثاني عارفاً بحقيقة الدونمة ويؤكد هذه الحقيقة الجنرال جواد رفعت أتلخان، حيث يقول في هذا الصدد: (إن الشخص الوحيد في تاريخ الترك جمعيه، الذي عرف حقيقة الصهيونية والساباتائية وأضرارهما على الترك والاسلام وخطرها تماماً، وكافح معهما مدة طويلة بصورة جدية لتحديد شرورهم هو السلطان التركي العظيم كافح هذه المنظمات الخطيرة لمدة ثلاث وثلاثين سنة بذكاء وعزم وبإرادة مدهشة جداً كالأبطال).

وفي حقيقة الأمر، أهتم عبد الحميد بإبقاء يهود الدونمة في ولاية سالونيك، وعدم وصولهم إلى الاستانة، بغية عدم السيطرة عليها والتجنب من تحركاتهم، ونتيجة للموقف الجاد من عبد الحميد إزاء فرقة الدونمة اتبعوا إستراتيجية مضادة له، حيث تحركوا ضده على مستوى الرأي العام العثماني والجيش.

ونتيجة لموقف عبد الحميد من الدونمة، قام يهود الدونمة بالتعاون مع المحافل الماسونية للإطاحة به، وقد استخدم هؤلاء شعارات معينة كالحرية والديمقراطية وإزاحة المستبد عبد الحميد، وعلى هذا الأساس قاموا بنشر الشقاق والتمرد في الدولة العثمانية بين صفوف الجيش. وكانت الغاية من هذا هي تحقيق المشروع الاستيطاني الصهيوني باستيطان فلسطين. وكان يهود الدونمة يشلكون اللبنة الأولى لتنفيذ المخططات اليهودية العالمية.

السلطان عبد الحميد وزعيم اليهودية العالمية (هرتزل):

استطاع زعيم الحركة اليهودية الصهيونية العالمية (تيودر هزتزل) أن يتحصل على تاييد أوروبي للمسألة اليهودية من الدول (ألمانيا، وبريطانيا وفرنسا) وجعل من هذه الدول قوة ضغط على الدولة العثمانية تمهيداً لمقابلة السلطان عبد الحميد، وطلب فلسطين منه وكانت الدولة العثمانية تعاني من مشاكل مالية متعددة، إذ كانت الأحوال الاقتصادية في البلاد على درجة من السوء بحيث فرضت الدول الأوروبية الدائنة وجود بعثة مالية أوروبية في تركيا العثمانية للإشراف على أوضاعها الاقتصادية ضماناً لديونها، الأمر الذي دفع عبد الحميد الثاني أن يجد حلاً لهذه المعضلة.

كانت هذه الثغرة هي السبيل الوحيد أمام هرتزل، كي يؤثر على سياسة عبد الحميد الثاني تجاه اليهود. وفي هذا الصدد يقول هرتزل في مذكراته: (علينا أن ننفق عشرين مليون ليرة تركية لإصلاح الأوضاع المالية في تركيا… مليونان منها ثمناً لفلسطين والباقي لتحرير تركيا العثمانية بتسديد ديونها تمهيداً للتخلص من البعثة الأوروبية.. ومن ثم نقوم بتمويل السلطان بعد ذلك بأي قروض جديدة يطلبها.

اقد أجرى هرتزل إتصالات مكثفة مع المسؤولين في ألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا وإنجلترا وكانت الغاية من هذه الاتصالات هي إجراء حوار مع عبد الحميد الثاني. وفي هذا الصدد فقد نصح لاندو منذ 21 شباط 1896م الصديق اليهودي لهرتزل أن يقوم بواسطة صديقه نيولنسكي رئيس تحرير (بريد الشرق).

وفي هذا المجال يقول هرتزل: (إن نحن حصلنا على فلسطين، سندفع لتركيا كثيراً أو سنقدم عطايا كثيرة لمن.. لمن يتوسط لنا. ومقابل هذا نحن مستعدون أن نسوي أوضاع تركيا المالية. سنأخذ الأراضي التي يمتلكها السلطان ضمن القانون المدني، مع أنه ربما لم يكن هناك فرق بين السلطة الملكية والممتلكات الخاصة).

وقام هرتزل بزيارة الى القسطنطينية وذلك في حزيران عام 1896م، ورافقه في هذه الزيارة نيولنسكي، الذي كانت له علاقة ودية مع السلطان عبد الحميد الثاني، ونتيجة لذلك فقد نقل بيولنسكي آراء هرتزل إلى قصر يلدز، وقد دارت محاورة بين نيولنسكي والسلطان عبد الحميد إذ قال السلطان له: (هل بإمكان اليهود أن يستقروا في مقاطعة أخرى غير فلسطين؟ أجاب نيولنسكي قائلاً:
(تعتبر فلسطين هي المهد الأول لليهود، فعليه فإن اليهود لهم الرغبة في العودة إليها)، ورد السلطان قائلاً: (إن فلسطين لاتعتبر مهداً لليهود فقط، وإنما تعتبر مهداً لكافة الأديان الأخرى). أجاب نيولنسكي قائلاً: (في حالة عدم استرجاع فلسطين من قبل اليهود فإنهم سوف يحاولون الذهاب وبكل بساطة إلى الأرجنتين).

وقام السلطان عبد الحميد بإرسال رسالة إلى هرتزل بواسطة صديقه نيولنسكي جاء فيها: (انصح صديقك هرتزل، أن لايتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع، لأني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة، لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي.

وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، ورووها بدمائهم؛ فليحتفظ اليهود بملايينهم. إذا مزقت دولتي، من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولاً في جثتنا ولكن لا أوافق على تشريح جثتي وأنا على قيد الحياة).

وفي هذا الصدد يقول عبد الحميد الثاني في مذكراته:
(ومن المناسب أن نقوم باستغلال الأراضي الخالية في الدولة، وهذا يعني من جانب آخر، أنه كان علينا أن ننهج إتباع سياسة تهجير خاصة، ولكننا لا نجد أن هجرة اليهود مناسبة، لأن غايتنا هي استيطان عناصر تنتمي إلى دين أسلافنا وتقاليدنا حتى لا يستطيعوا من الهيمنة على زمام الأمور في الدولة).

وبعد إخفاق جهود هرتزل في واسطة نيولنسكي، اتجه هرتزل إلى قصر فيلهلم الثاني أمبراطور ألمانيا، ولاسيما أنه كان صديقاً للسلطان عبد الحميد، بالاضافة إلى كون فيلهلم الثاني هو الحليف الوحيد للعثمانيين في أوروبا، إلا أن مساعيه لم تكلل بالنجاح.

يقول المؤرخ التركي نظام الدين نظيف في كتابه (إعلان الحرية والسلطان عبد الحميد الثاني): (….عندما رد طلب الوفد اليهودي -المسند من قبل الامبراطور فيلهلم- في الحصول على وطن لهم، أي: عندما خاب هرتزل في مسعاه إشتد العداء ضد (يلدز) وهذا ماكان يتوقعه عبد الحميد، لأن اليهود قوم يتقنون العمل المنظم، وكانت لديهم قوى عديدة تضمن لهم النجاح في مسعاهم، فالمال متوفر لديهم وكانوا يسيطرون على أهم العلاقات التجارية الدولية، وكانت صحافة أوروبا في قبضتهم، فكان في مقدرهم إطلاق العواصف التي يريدونها لدى الرأي العام متى شاءوا….).

يردف المؤرخ التركي قائلاً: (بدأوا أولاً بتحريك الصحافة العالمية، ثم أخذوا بتوحيد أعداء السلطان عبد الحميد الذين نشأوا في ذلك المجتمع العثماني الخليط، نجد، أنصار المشروطية يتخذون طابعاً منظماً وهجومياً، علماً بأنهم كانوا حتى ذلك الوقت متفرقين ويعملون دون نظام ودون تنسيق، إذ لم يكن صعباً عليهم توحيد أعداء عبد الحميد الذين نشأوا في ذلك المجتمع العثماني الخليط.

وقد أخذ (المشرق الأعظم الماسوني الإيطالي) على عاتقه هذه المهمة في التوحيد والتنسيق لأنه كان أقرب مركز ماسوني للإمبراطورية العثمانية. ولعبت المحافل الإيطالية وخاصة محفل (ريزوتا) في سلانيك دوراً ملحوظاً…).

إزاء هذا الاخفاق قرر هرتزل أن يستخدم وسائل أخرى لاستمالة عبد الحميد الثاني، حيث عرض نفسه عن طريق نيولنسكي خدمته بواسطة القضية الأرمنية، وفي هذا الصدد يقول هرتزل: (طلب مني السلطان عبد الحميد أن أقوم بخدمة له، وهي أن أؤثر على الصحف الأوروبية، بغية قيام الأخيرة بالتحدث عن القضية الأرمنية بلهجة أقل عداء للأتراك، أخبرت نيولنسكي حالاً باستعدادي للقيام بهذه المهمة، ولكني أكدت على إعطائي فكرة وافية عن الوضع الأرمني: من هم الأشخاص في لندن الذين يجب أن أقنعهم بما يريدون، وأي الصحف يجب أن نستميلها لجهتنا وغير ذلك).

وعلى هذا الأساس، فقد نشطت الدبلوماسية الصهيونية لاقناع الأرمن بالتخلي عن ثورتهم. ونتيجة لذلك فقد اتصل هرتزل مع سالزبوري والمسؤولين الانجكليز بغية استخدامهم للضغط على الأرمن، كما نشط اليهود في مدن أوروبية أخرى مثل فرنسا للقيام بنفس الدور. إلا أن دبلوماسية هرتزل قد أخفقت بسبب عدم تحمس بريطانيا، لأن ذلك كان يعني تأييد سياسة عبد الحميد، الأمر الذي يؤدي في إثارة الرأي العام البريطاني ضد الحكومة.

وقد حاول هرتزل لقاء عبد الحميد الثاني، ولاسيما أثناء الزيارة الثانية للامبراطور فيلهلم الثاني إلى القسطنطينية، إلا أن موظفي قصر يلدز منعوه من ذلك. واستمر هرتزل في محاولاته المستمرة حتى تكللت جهوده بالنجاح بعد سنتين (1899-1901م) من الاحتكاك المباشر مع الموظفين الكبار لقصر يلدز من مقابلة عبد الحميد.

حيث قابل السلطان لمدة ساعتين وقد اقترح هرتزل قيام البنوك اليهودية الغنية في أوروبا بمساعدة الدولة العثمانية لقاء السماح بالاستيطان في فلسطين، بالإضافة إلى ذلك فإنه قد أكد لعبد الحميد أنه سوف يخفف الديون العامة للدولة العثمانية وذلك منذ عام 1881م، وقد وعد هرتزل عبد الحميد أن يحتفظ بمناقشاته السرية معه.

كان السلطان عبد الحميد في خلال مقابلته مع هرتزل مستمعاً أكثر منه متكلماً وكان يرخي لهرتزل في الكلام كي يدفعه أن يتحدث بكل مايخطر في مخيلته من أفكار ومشروعات ومطالب. وقد أدى هذا الأمر إلى أن يعتقد هرتزل بأنه نجح في مهمته هذه. ولكنه أدرك في نهاية الأمر بأنه قد أخفق مع السلطان عبد الحميد وأنه أخذ يسير في طريق مسدود معه.

وبعد إخفاق جهود هرتزل عند عبد الحميد الثاني، تحدث هرتزل قائلاً: (في حالة منح السلطان فلسطين لليهود، سنأخذ على عاتقنا تنظيم الأوضاع المالية، أما في القارة الأوروبية فإننا سنقوم بإيجاد حصن منيع ضد آسيا، وسوف نبني حضارة ضد التخلف، كما سنبقى في جميع أنحاء أوروبا بغية ضمان وجودنا).

وفي الحقيقة كان السلطان عبد الحميد يرى أنه من الضروري عدم توطين اليهود في فلسطين، كي يحتفظ العنصر العربي بتفوقه الطبيعي. وفي هذا الصدد يقول: (… ولكن لدينا عدد كافٍ من اليهود، فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقاً، علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضاً تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير، ولذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم).

وكانت الدولة العثمانية تسعي في أحيان كثيرة إلى أبعاد اليهود العثمانيين عن أفكار هرتزل والحركة الصهيونية، ومع ذلك فإنها في أحيان أخرى كانت تستخدم لغة التهديد معهم. وفي هذا الصدد أوضح علي فروخ بك الوسائل الإعلامية الأجنبية، وبصراحة تامة: (إنه لبعيد من الصواب أن يقوم الصهاينة على خلق صعوبات للحكومة العثمانية، بغية إرغامها على تحقيق مصالحها.

ولكن هذه الصعوبات سوف تؤدي في نهاية الأمر الى إلحاق الأذى بوجودهم السلمي والسعيد في الدولة العثمانية… وهذه النقطة واضحة بالنسبة لعلاقة العثمانيين مع رعايا الأرمن، لأن قلة من المتمردين الذين قاموا على إرتكاب الخطأ والحماقة معتمدين إلى الإرشاد الميكافلي قد أدى في نهاية الأمر أن يندما على مافعلوه، من دون التوصل على أية نتيجة).

وعلى الرغم، من اخفاق جهود هرتزل عند السلطان عبد الحميد، كتب هرتزل قائلاً: (يجب تملك الأرض بواسطة اليهود بطريقة تدريجية دون ماحاجة إلى استخدام العنف، سنحاول أن نشجع الفقراء من السكان الأصليين على النزوج إلى البلدان المجاورة بتأمين أعمال لهم هناك مع خطر تشغيلهم في بلدنا إن الاستيلاء على الأرض سيتم بواسطة العملاء السريين للشركة اليهودية التي تتولى بعد ذلك بيع الأرض لليهود. علاوة على ذلك تقوم الشركة اليهودية بالإشراف على التجارة في بيع العقارات وشرائها، على أن يقتصر بيعها على اليهود وحدهم).

وكتب هرتزل قائلاً: (أقر على ضوء حديثي مع السلطان عبد الحميد الثاني أنه لايمكن الاستفادة من تركيا إلا إذا تغيرت حالتها السياسية أو عن طريق الزج بها في حروب تهزم فيها، أو عن طريق الزج بها في مشكلات دولية أو بالطريقتين معاً في آن واحد).

إن عبد الحميد الثاني كان يعرف أهداف الصهيونية، حيث قال في مذكراته السياسية: ( لن يستطيع رئيس الصهاينة هرتزل أن يقنعني بأفكاره وقد يكون قوله: ستحل المشكلة اليهودية يوم يقوى فيه اليهودي على قيادة محراثه بيده، صحيحاً في رأيه، أنه يسعى لتأمين أرض لإخوانه اليهود، لكنه ينسى أن الذكاء ليس كافياً لحل جميع المشاكل.. لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين بل يريدون أموراً مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين، إنني أدرك أطماعهم جيداً، لكن اليهود سطحيون في ظنهم أنني سأقبل بمحاولاتهم. وكما أنني أقدر في رعايانا من اليهود خدماتهم لدى الباب العالي فإني أعادي أمانيهم وأطماعهم في فلسطين).

وعن القدس يقول عبدالحميد الثاني: (لماذا نترك القدس… إنها أرضنا في كل وقت وفي كل زمان وستبقى كذلك، فهي من مدننا المقدسة، وتقع في أرض إسلامية، لابد أن تظل القدس لنا).

لقد كان غرض السلطان عبد الحميد في استماعه الى (تيودور هرتزل) معرفة الآتي:

  • 1. حقيقة الخطط اليهودية.
  • 2. معرفة قوة اليهود العالمية ومدى قوتها.
  • 3. إنقاذ الدولة العثمانية من مخاطر اليهود.
images 47

وشرع السلطان عبد الحميد في توجيه أجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية لمتابعة اليهود وكتابة التقرير عنهم وأصدر إرادتين سنتين الأولى في 28 يونيو 1890م والأخرى في 7 يونيو 1890م. في الأولى (رفض قبول اليهود في الممالك الشاهسانية) والأخرى: (على مجلس الوزراء دراسة تفرعات المسألة واتخاذ قرار جدّي وحاسم في شأنها).

واتخذ السلطان عبد الحميد الثاني كل التدابير اللازمة في سبيل عدم بيع الأراضي إلى اليهود في فلسطين، وفي سبيل ذلك عمل جاهداً على عدم إعطاء أي امتياز للهود من شأنه أن يؤدي إلى تغلب اليهود على أرض فلسطين.

ولابد في هذه الحالة أن تتكاتف جهود المنظمات الصهيونية بغية إبعاد السلطان عبد الحميد الثاني من الحكم. ويعزز هذا القول هرتزل عندما قال: (إني أفقد الأمل في تحقيق أماني اليهود في فلسطين، وإن اليهود لن يستطيعوا دخول الأرض الموعودة، مادام السلطان عبد الحميد قائماً في الحكم، مستمراً فيه).

وتحركت الصهيونية العالمية، لتدعم أعداء السلطان عبد الحميد الثاني، وهم المتمردون الأرمن، والقوميون في البلقان، وحركة حزب الاتحاد والترقي، والوقوف مع كل حركة انفصالية عن الدولة العثمانية.

واستعملت طائفة الدونمة شعارات معينة (كالحرية والدمقراطية ومحاربة الاستبداد وتحرير المرأة) من أجل تحقيق أهدافها ومآربها، وكانت الغاية من هذا كله تحقيق المشروع الإستطاني الصهيوني، بالاستطانة في فلسطين، وتعتبر طائفة الدونمة هي من شكلت اللبنة الأولى لتحقيق المخططات اليهودية العالمية. ومن أبرز شخصيات هذه الطائفة مصطفى كمال اتاتورك.

وبالطبع فإن هذه الطائفة ساهمت في سقوط الدولة العثمانية وخلع السلطان عبد الحميد الثاني، ولا تزال هذه الطائفة حتى وقتنا الحاضر، تملك صحف ودور نشر، وتغلغلت كثيرا في الإقتصاد والثقافة وكل جوانب الحياة في الدولة العثمانية.

المصدر: كتاب السلطان عبد الحميد الثاني وفكرة الجامعة الإسلامية وأسباب سقوط الخلافة العثمانية (الدكتور علي الصلابي)

إسبانيا بالعربي.

أخبار إسبانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *