المجاهدون “الصعاليك” في الأندلس.. إسبانيا خلال القرن 16م

موقع إسبانيا بالعربي – عندما انهارت مملكة غرناطة الإسلامية كآخر ما تبقى للمسلمين من ممتلكات في الأندلس، تشكلت جيوب معارَضة في أراضي هذه المملكة في الأوساط التي شعرتْ، بعد بضع سنوات، بأن الملوك الكاثوليك خدعوا المسلمين ولم يلتزموا بتعهداتهم التي وقّعوا عليها في معاهدة التسليم في 2 يناير 1492م.
واختلط الغضب السياسي أحيانا بالتململ الاجتماعي الاقتصادي بالنسبة للذين استعصى أو بدأ يستعصِي عليهم تحصيلُ أرزاق أهاليهم بسبب الظلم الجبائي المسلَّط عليهم دون غيرهم وتجاوزات السلطات السياسية النصرانية والكنيسة الكاثوليكية ومحاكم التفتيش.

وليس صدفةً أن تنطلق أوَّل أعمال “الصعلكة” الموريسكية، على حد تعبير الإسبان النصارى آنذاك، بنكهة سياسية بعد نحو 9 أشهر من تسليم غرناطة وتحديدا في يوم 30 يناير من سنة 1492م، أي في مثل هذه الايام من بداية العام، حسب وثائق أرشيف بلدية غرناطة.

ولم تتوقف منذئذ هذه الأعمال إلى غاية الطرد النهائي للموريسكيين في بداية القرن 17م بين سنتي 1609م و1614م، ولا نجح القمع والاضطهاد والتنكيل وكل ما اتُّخذ من إجراءات ردعية وترغيبية في كبح انتشارها أو تضييق رقعتها، لأن المشكلة لم تُعالَج من جذورها بل عولِجت غالبًا بمنطق أمنيٍ “استئصاليٍ”…

وهكذا، مع مر السنين والعقود وتزايُد ضغط السلطات السياسية والدينية على “النصارى الجُدد”، أي الموريسكيون، كان عدد الجماعات المقاوِمة في الجبال والأرياف وحتى في المدن والبلدات يتزايد ويرفع من وتيرة الهجمات شبه العسكرية ونوعيتها وفق إستراتيجية حرب العصابات التي كانت تعتمد على الكمائن وقطع الطرقات على رموز الدولة الإسبانية ورجال الكنيسة وقتلهم وسلب ممتلكاتهم التي استفاد منها، أو من بعضها، فقراء الموريسكيين.

هؤلاء “الصعاليك”، “البَّانْدِيَة” بلهجتنا العامّية، الذين كان الإسبان النصارى يسمونهم الـ: “باندوليروس” (Bandoleros) والـ: سالتيادوريس (Salteadores)، كانوا النُّسخ الأندلسية/الموريسكية لبن زَلْمَاطْ وبُوزِيّانْ القَلْعِي وأرَزْقِي أُوالبشير في جزائر القرن 19م وبداية القرن 20م في مواجهة الاحتلال الفرنسي…

وأصبح لبعض هؤلاء المقاوِمين شهرةً كبيرة مثيرة للرعب في أوساط الإسبان النصارى الذين كانوا يرون فيهم مجرّد صعاليك ولصوص متجاهِلين قضيتهم الأساسية الأندلسية الإسلامية، فيما كانوا مجاهدين أبطالا عند إخوانهم الموريسكيين الذين كثيرا ما اشتكوا اليهم المظالم الإسبانية في حقهم طالبين القصاص، وكان لهم في حالات كثيرة ما ارادوا…

ولعل من بين أبرز هؤلاء الثائرين وأكثرهم شهرة في أرياف وجبال الأندلس/ إسبانيا، نذكُر في جبال البشارات في غرناطة
كلاَّ من البَرْطال دي نَريلة (El Partal de Narila)، وغونزالو السِّنيث أو الشنّات اذا اخذنا بعين الاعتبار ظاهرة الإمالة في اللسان العربي الأندلسي (Gonzalo El Seniz (مع العلم أن الشنات وابن شنات لقب موجود في شمال غرب الجزائر الى اليوم)، وكذلك أنطونيو المانكو (Antono El Manco) أي المبتور الذراع (المانْشُو) الذي كان يقود جماعة من 300 شخص في نواحي مالقة، والسِّطِيلي أو الثِّطيلي (Acetyle) وهو لقب عائلي شائع منذ قرون في جيجل بشمال شرق الجزائر بصيغة “الزطيلي” أو “الزتيلي” والذي لا نعرف ان كان بينهما علاقة قرابة بينما نعرف ان جيجل احتضنت أعدادا ضخمة من اللاجئين الأندلسيين/الموريسكيين، وآخرون…

قائمة هؤلاء القادة المجاهدين/”الصعاليك” الذين عُرفوا أيضا بـ: “المنفيين” (Los Monfíes) طويلة وكانت غالبيتهم نشطة بشكل خاص في جنوب إسبانيا حيث مملكة غرناطة الإسلامية سابقًا. وكان من بينهم أيضا خوليان الطيفور (Julian Atayfor)، وميغيل خوكار (Miguel Jocar)، والرُّوميرْوِيلو (El Romeruelo)، وماركوس الملِّيتشي وعلى الارجح المَليح (Marcos El Meliche)، ولاثيراكي (Lazeraque) او الأزرق. وهي أسماء نصرانية في أغلبها فُرضتْ عليهم فرضًا من طرف السلطات وكانت من بين اسباب الغضب والتمرّد، غير أنهم بالتحاقهم بالجبال تركوها وعادوا إلى أسمائهم العربية وتقاليدهم في الهندام العربي والأكل والشراب وطقوس وتعاليم الإسلام… فضلا عن جماعة القائد الشهير الكاثين (El Cacín)، وباتشيكو (Pacheco)، و”جماعة خيرونيمو بَوْتيسْتَا” (Jerónimo Bautista) المنحدر من طليطلة والناشط برفقة أتباعه في جبال سْيِيرا مورينا (Sierra Morena)…

وإذا كان لا بد من التوقف عند بعضهم والتعرف عليهم عن قرب فإن حالة القائد “المنفي” غونثالو السنيث (Gonzalo El Seniz) جديرة بذِكرٍ خاص.

هذا الأخير تم القبض عليه وحُكم عليه بأربع سنوات سجنًا بعد قتله شخصا في ظروف نجهلها. وبعد خروجه من السجن انتقم بقتل مجموعة من التجار المسيحيين في كمين بمساعدة شقيقه ثم التحق بالمتمردين في الجبال ليصبح لاحقا أحد كبار قادة وزعماء ثورة البُشارات الكبرى (Alpujarras)، التي جرت وقائعها بين نهاية عام 1568م و1570م، و”أمين سر آخر قادتها ابن عبُّو”…

مثلما تجدر الإشارة إلى حالة القائد الزعيم ذائع الصيت، وربما الأكثر شهرة في وقته بين المنفيين، في أوساط الإسبان النصارى والموريسكيين، والمعروف بـ: أنطونيو أو ألونثو دي آغيلار الخُرَيْقْ (Antoño de Aguilar Al Joraique)، أو (Xorayque) حسب الوثائق، وكان الخُريْق من بين الحالات النموذجية التي عندما تم تضييق الخناق الأمني عليها، غيّرت قاعدة عملياتها واستراتيجية الهجمات بدلا من الاستسلام أو الاستمرار في هجمات يائسة مآلها الموت والفشل.
الخريق، ومن اتبع طريقه، تمكنوا من اللجوء بحرًا إلى الجزائر والمغرب وتونس وليبيا بمساعدة مجاهدي هذه البلدان لمواصلة مقاومة الإسبان ضمن القوات البحرية المحلية فيما سيُعرف في الكتابات الاوروبية آنذاك بـ: “القرصنة”.

أما الخريق فقد اختار الذهاب إلى تطوان وقاد عدة غارات بحرية على سواحل جنوب إسبانيا أثارت الرعب والهلع لدى سلطات البلاد والسكان الذين هجروا بلداتهم وقراهم نهائيا. وقُدّر عدد بعض القرى والبلدات المهجورة إثر إحدى هجماته بنحو 15 قرية وبلدة، وما كان التاج الإسباني قادرا على حمايتهم وتامين منطقتهم بشكل دائم.

ومثلما التحق الخريق بطنجة، اختار آخرون مدينة الجزائر وأصبحوا من أهم ضباط أسطولها البحري ورجال الاستخبارات الذين كانوا يكلَّفون بمهام إستراتيجية في إسبانيا بحُكم معرفتهم بالبلد وعاداته ولغته وعلاقاتهم بأهاليهم ومَن تبَقّى هناك مِن الاندلسيين/الموريسكيين…

ومن الضفة الجنوبية للبحر المتوسط سوف يتواصل القتال والمجابهة لمدة بلغت 300 عام في الحالة الجزائرية…

المصدر: المؤرخ فوزي سعد الله / موقع إسبانيا بالعربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *