ماذا لو عاش الطبيب أبو جعفر الغافِقي القرطبي في عصر الجهل “المُستنير”؟
إسبانيا بالعربي / قبل نحو 1000 عام، في نهاية القرن 12م وبداية القرن 13م، كان لا يُمكن أن تتجوَّل في الشوارع المرصوفة في مدينة قرطبة وفي أرباضها أو تتردد على مجالسها العِلمية العامّة والخاصة، مِن فناء جامع قرطبة المُمْتَلِئ بحلقات التدريس حول كبار عباقرة البلاد الأندلسية في شتى المعارف وديار العُلماء ودكاكينهم، دون أن تسمع الأحاديث والأعاجيب عن الطبيب أبو جعفر الغافقي.
كان أبو جعفر الغافقي طبيبًا وصيدليًا في الوقت ذاته، يُمارس الطب والصيدلة لِعلاج الناس ويقضي ما تبقَّى من وقته في البحث العِلمي بدراسة أعمال كبار أطباء عصره ونوابغ الطب في الحضارات القديمة السابقة للحضارة الإسلامية وعلماء النباتات والأعشاب المستخدَمة في الأغراض العلاجية. وكالكثير من أطباء زمانه وعظمائهم، كانت فلسفته العلاجية طبيعية تقوم على مبدأ ألاَّ علاج بالأدوية إذا توفر الدواء في الأغذية في فترة تاريخية من عُمْرِ الحضارة الإسلامية كان خلالها فنُّ الطبخ فنًّا غذائيًا وطبّيًا معًا.
عن أبي جعفر الغافقي، نسبةً إلى بلدة غافِق في رَبَضِ قرْطبة الشمالي، قال الباحثُ العراقي الدكتور نِهاد عباس زيُنل في “الإنجازات العِلمية للأطباء في الأندلس” إنه “كان…من أعْلم أطباء الأندلس في العصور الوُسْطى بالأدوية والأعشاب”، وكان له “أثر لا يُستهان به في تطوُّر المعرفة في الأدوية والأغذية المستعمَلة في المُداوَاة في الشّرق والغرب”.
وقال عنه الطبيب ابن جلجل القرطبي الأندلسي مِن قَبْل إنه “كان أعْرَفَ زمانِه بِقِوَى الأدوية المفرَدة ومنافعها” وإنّ كتابَه هذا، “كِتاب الأدْوِيَة المُفْرَدَة”، “لا نظير له في الجَودة ولا شبيهَ لَهُ في مَعناه”.
وإذا أَخَذْنَا بأقْوَالِ المستشرِق الألماني المعروف مَايِرْهُوفْ الذي دَرَسَ مُطَوَّلاً أعمالَه فإن أبو جعفر الغافقي يُعدُّ “أكثر الصيادلة العرب أصالةً وأحسن عالِم نباتي في العصر الوسيط” على حدّ تعبير صاحب “فصول في إبداعات الطب والصيدلة في الأندلس” الدكتور محمد بشير حسن راضي العامري مِن جامعة بغداد.
وقد أصبح كِتاب أبو جعفر الغافقي مرجعًا لا بد منه لدى جيله مِن الأطباء والصيادلة ولدى أجيالٍ كثيرة مِمّن أتوا بَعْدَهُ كانوا لا يرون شعوذةً، مثلما يفعل أتباع مَذهب الجهل “المُستنير” اليوم، في علاج تَصَلُّب المفاصل، أو “النّقرس”، بِنباتِ اللّحْلاَح مثلما فَعَلَ أبو بكر الرازي أو مداواة السُّعال وبعض أمراض الصَّدر بِنبات الحرمل وضيق التّنفس عند الأطفال بِالتّين الجافّ والحَلْبَة…
طالع أيضا ماذا تعرف عن مدينة قرطبة؟ وكيف ومتى سقطت من يد المسلمين؟
وقال المستشرق الألماني مايرهوف إن العالِم المُسلم والطبيب الكبير ابن البَيْطَار المالَقِي الأندلسي، الشهير عبْر التاريخ في العلوم الطبية والصيدلية، عند تأليفه كتابَه المعروف “الجامع لِمُفردات الأدوية والأغذية” مَا كان له لِيُنجِزَ عملَه التاريخي هذا لوْلا اعتماده شِبْه الكُلّي على كِتاب الغافقي المذْكور، وبصورةٍ أقلّ على كِتابيْ جَالِينوسْ (Galinous) وبِيدَانْيُوسْ دِيُسْقُورِيدِيس (Pedanius Dioscorides).
وكان الغافقي لأمانته ودقّته العلمية في كِتابه حريصًا على ذِكْرِ أسماء الأعشاب الطبية باللاتينية وبالعربية والبربرية والفارسية والهندية…
أما لُوسْيَانْ لُوكْلِيرْ (Lucien Leclerc) الطبيب المؤرخ الفرنسي، الذي اهتم بتاريخ الطب في بلاد الإسلام، فيقول في كتابه Histoire de la médecine arabe (تاريخ الطب العربي)، الصادر عام 1876م في باريس، إن اسم أبي جعفر السّيد الغافِقي يَتردّد أكثرَ من 200 مرة في كِتاب ابن البيطار “الجامع لِمفردات الأدوية والأغذية” لِكثرةِ ما استعار منه.
طالع أيضا دبلوماسي من البيرو يكتب: مساهمة اللغة العربية في اللغة الإسبانية
ويُصنِّف لُوسْيانْ لُوكْلِيرْ الطبيبَ أبو جعفر الغافقي الأندلسي من حيث أهميته في تاريخ الطب الإسلامي في المرتبة الثالثة بعد كُلٍّ مِن الطبيبيْن الكبيريْن أبي بَكر الرَّازِي (Rhazes باللاتينية أو Rasis بالإنجليزية) والرئيس أبو علي ابن سينا البُخَارِي الأوزْبَكِي المَوْلِد (Avicenna باللاتينية وAvicenne بالفرنسية).
في العام 1165م، فارق أبو جعفر الغافقي الحياة في أرض الأندلس مسقط رأسه، يقول أحمد المقري في “نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب”، بعد أن ذاع اسمُه وفضلُه العِلمي في الآفاق. ولم يَترك أبو جعفر الحياة الدنيا إلا بعد بَذْرِهِ دُرَرًا ثمينةً وأصدافًا مِن خِبرته الطبية/الصيدلية على مدى عقود طويلة قضى جزءا كبيرا منها في قرطبة. وتَرَكَ قَطْفَ الثّمار والحصاد لِمَن أتى بعدَه. وهكذا، لم يكن مرورُه بالحياة الدنيا مُرور الكرام بل ترك فيها من الأثر ما جعل صدى أعماله يتردد إلى اليوم، بما في ذلك على هذه الصفحة بين هذه السّطور وفي هذه اللحظات.
طالع أيضا كيف عاش الأندلسيون في عصر أمراء الطوائف؟ إليك التفاصيل
للغافقي كِتابٌ يُعد أهم أعماله، عنوانُه “كتاب الأدوية المفرَدة”، ولو أن هناك من يُسمّيه “كتاب الحشائش”، وهو موسوعة تتضمن وصفا علميًا دقيقًا لـ: 1000 دواء وكيفيات التحضير والاستعمال للعلاج وفق ترتيب أبجدي على طريقة القواميس. وقد تم نشره في مصر سنة 1932م.
الكاتب والمترجِم البريطاني والأديب المُستعرِب الرّاحل دونيز جونسون ديفيس (Denys Johnson-Davies) وَصَفَهُ بـ: “أفضل الكُتُب الطبية” في زمانه في مقالٍ نَشَرَهُ في صحيفة “البَيَان” الإماراتية سنة 2016 م بِعنوان “طِبُّ الأعشاب في الحضارةِ الإسلامية“.
المتصفح لهذا الكتاب، “الحشائش” ، لن يعثر فقط على هذه الأدوية الطبيعية العتيقة بل يَجِدُ بين صفحاته مؤلِّفَه الغافقي يناقش ويُصحِّح لِغيره من كبار الأطباء الأبرز عبْر التاريخ، بِمن فيهم جالينوس (Galinous) واليوناني دْيوسقورِيدِسْ (Pedanius Dioscorides) صاحب الكتاب الشهير Materia Medica، أو “الحشائش” هو الآخر في نسخته العربية.
طالع أيضا بلدة “الحسين” الإسبانية.. غاب المسلمون فحافظ الإسبان على الاسم
وبالمناسبة، اكتُشِفَتْ أقدَمُ نسخة من هذا الكتاب اليوناني Materia Medica الذي ألَّفَهُ حوالي سنة 60م دْيوسْقورِيدِسْ، السّوري ابن عَيْن زَرْبَة الواقعة جنوب شرق تركيا الحالية، في مدينة إسطنبول التركية عام 1560م. وهي نسخة تعود إلى القرن 6م ومحفوظة اليوم في المكتبة الوطنية النمساوية بمدينة فيينا.
وكان هذا الكتاب الأساسي الذي تربَّع على عرش الطب والصيدلة بشكل خاص لمدة 1500 سنة كامِلة منذ صدوره حوالي سنة 60م من أجمل وأعظم وأهم هدايا إمبراطور بيزنطة قسطنطين السابع إلى الخليفة الأموي في قرطبة عبد الرحمن الناصر وأحبّ الهدايا إلى قلبه والذي سوف يُحدث ثورةً طِبية صيدلية كبيرة في الأندلس.
للمهتمين من أهل التخصص، نقول إن مخطوطات كِتاب الغافقي تُعد اليوم من المقتنيات الثمينة لِعِدَّةِ مكتباتٍ وخزائن مخطوطات عالمية من “دار الآثار العربية” و”دار الكتب المصرية” في القاهرة إلى مكتبة غوته بألمانيا فأكسفورد ومكتبة أوسلريانا في كندا.
طالع أيضا “لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ”: أجمل ما قاله شعراء الأندلس في رثاء المدن المفقودة
اليوم، بعد نحو 1000 عام من رحيل أبو جعفر الغافقي، لم يَعد الناس يعرفون عنه شيئًا ولا حتى يسمعون باسمه، بما في ذلك في الأوساط الطبية العِلمية المتخصِّصة، لأن أنظمتَنا التعليمية/الجامعية لم تَعُدْ تُعلِّم سوى التِّقنية أو الصَّنْعَة بدون خلفياتِها التاريخية وبدون فلسفة أو تنظير وتفكير شامل في التطوُّر التاريخي لِهذه الصَّنعة. وهو ما يَحدث أيضًا في كافة المجالات العلمية التطبيقية تقريبًا.
فالطبيب لم يَعد يُحسِن أكثرَ مِن استخدام سمّاعتِه وغيرها من الأجهزة لتشخيص الداء ثم وصف العلاج وتحديد الدواء، ويستمر على هذا النّحو إلى غاية تقاعده. وتَحدث هذه المأساة حتى في صنعة الغناء والموسيقى عندنا حيث مِئات الجمعيات والمدارِس الموسيقية تُعلِّم عادةً العزفَ والغناء والكتابةَ الموسيقية، لكن ليس إلاَّ، دون تكوين تاريخي/نظري فلسفي.
واضحٌ أن قبل نحو 1000 عام، ربما كُنّا أفضل بِكثير.
ففي الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام، كان التكوين الطبي، وحتى غير الطبي، موسوعيًا، فالطبيب قد يكون صيدليًا وفقيهًا في علوم الدِّين وشاعرًا وأديبًا وعالِمًا فيزيائيًا ورياضيًا ومهندسًا وفنّانًا موسيقيًا، صنعةً وتنظيرًا مثلما كان زرياب وابن باجة وابن حاسب المُرسي ومثلما كان زميلُهم الإشبيلي الأندلسي أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الذي كان طبيبًا وباحثا في الطّب وله “كتاب في الأدوية المفرَدة في ترتيب الأعضاء المتشابهة الأجزاء والآلية” دون أن يَحُل ذلك دون تأسيسه أقْدَمَ مدرسة لِتعليم الغناء الأندلسي في الجزائر في الوقت ذاته، وتحديدا في مدينة بجاية في القرن 11م…
طالع أيضا : فتنت بأسقف كنيسة في برشلونة.. ظهور المليحة صاحبة الخمار الأسود في إسبانيا
وما الذي يَعرِفه الطبيب اليوم عن القدرات العِلاجية الخارِقة لِزيت الزيتون ولأوراق شجرة الزيتون ولخليط هذا الزيت بالعسل في تنقية وعلاج القروح والأورام وجلد الرأس واللثة والأذن المتقرِّحة والعين وغيرها التي يَنصح بها كبارُ رموز الطب والصيدلة عبْر التاريخ البشري منذ آلاف السنين؟ وماذا يَعرِف عن فنّ تَجبير العِظام عند تَعرّضها للكسور والذي ما زال يَقدِر على ما لا يَقدر عليه الطبّ الحديث؟ وربما قيل لنا في زمننا هذا إن الخَتنَ تَخلُّفٌ لو لم يزكه الطب الحديث ويدعو لتعميمه…
طالع أيضا : المصحف الأول في تاريخ الإسلام ورحلته إلى الأندلس
والذي يبدو له هذا الكلام هرطقة و”سلفية” طبية ظلامية فما عليه إلا الاتكال على الله وتَصَفُّح مؤلفات، على الأقل، ابن البيطار وديوسقوريدس وجالينوس والرئيس ابن سينا الذي قال ذات يوم إن طبخ ورق الزيتون بماء الحصرم حتى يصبح كالعسل يَمنع تآكل الأسنان دون أن يسخر منه أحد. مِثلما هناك من داوى به بنجاح عرق النسا والعديد من أمراض الجلد فلاقوا، عَكْس ما يحدث اليوم، كل الشكر والاستحسان والاحترام… فرحم الله تلك الأيام وأهلها…
المصادر : الباحث فوزي سعد الله / موقع إسبانيا بالعربي