هل كان زرياب سببا في سقوط الأندس؟

ما زالت شخصية زرياب ملهمة للعديد من الموسيقيين والفنانين العرب، الشاب الأسمر الذي خاض رحلة استثنائية من الشرق إلى الغرب، لم يكن مجرد فنان موهوب، بل كان أكثر المؤثرين في تاريخ الموسيقى والمجتمع العربيّين، ولكن البعض اليوم يحاكم زرياب بمعطيات أخلاقية غريبة ومستهجنة، إلى حد أن بعضهم ما زال إلى الآن يتهمه بأنه سبب سقوط الأندلس.

لا شك أن زرياب سيبقى أيقونة الموسيقى العربية، حتى ولو مر على زمانه 12 قرنا، حيث لم يترك موسيقي ما تركه زرياب من تأثير طليعي لا في الفن فحسب، بل وفي دوائر السياسة وفي ميولات المجتمع الذي تغير معه.

الاسم الحقيقي لزرياب هو أبوالحسن علي بن نافع، وأطلق عليه اسم زرياب وهو اسم طير أسود اللون عذب الصوت من الموصل، المدينة التي ولد فيها سنة 777 ميلاديا (حسب تقريب المؤرخين)، واستوحي هذا اللقب من جمال صوته.

رحلة الفنان

بدايات زرياب كانت سرية حيث تتلمذ في الخفاء على يد إسحاق الموصلي، وهو مغني بغداد الشهير، الذي نادم الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق، لكن المعلم لم يكن يعلم أن تلميذه الذي كان يُعلمه فنون الموسيقى سيتفوق عليه وهو في رحاب أمير المؤمنين هارون الرشيد، وبالمقابل لم يكن زرياب وهو الشاب الأسمر الفقير يعتقد أنه سيحضر مجلس الرشيد يوما، إلى أن حدث ذلك وتغير مصير الفتى الموهوب كليا.

تؤرخ الباحثة آسيا بلمحنوف في بحث لها بعنوان “زرياب فنان الأناقة والإتيكيت كيف كان سبباً في سقوط حكم المسلمين بالأندلس؟” لبدايات زرياب، تقول “اشتاقت نفس الرشيد إلى سماع ما تطرب له الأذن، فدعا إلى مجلسه نادمه إسحاق الموصلي الذي رأى أن يأخذ معه تلميذه المتفوق زرياب وهكذا ينال رضا الخليفة وتزيد مرتبته عنده فيغدق عليه بالهدايا والعطايا والأموال، ولمّا حضر المعلم وتلميذه بلاط الخليفة سأل الرشيد زرياب: هل تُجيد الغناء؟ وقد أجاد الفتى الأسمر الإجابة عندما قال: نعم، أُحسن منه ما يُحسنُه الناس، وأكثر ما أُحسِنُه لا يُحسِنُه الناس، ممّا لا يُحسّن إلاّ عِندكَ، ولا يُدّخرُ إلاّ لكَ، فإن أذِنتَ غنيّتُكَ ما لم تسّمع أُذنٌ من قبل؟

وتضيف أن الرشيد تحمّس لسماع زرياب خاصة وأنّه لمس في ردّه حسن الأدب وفصاحة اللسان، فطلب منه أن يغني ويعزف على عود أستاذه، لكن زرياب استأذنه ليعزف على عوده الخاص، وبعد أخذٍ ورد سمح له الخليفة بالعزف على عوده الخاص الذي صنعه زرياب بنفسه، وكان أخف من عود أستاذه.

وقد طربت مسامع الحاضرين وبُهت الرشيد في صوت الفتى الأسمر الذي لم يكن أحدٌ غير معلمه يعلم أنه يملك ذلك الصوت العذب، وبعد أن أنهى زرياب مقطوعته الموسيقية وقف الرشيد مُبديا فرحته بالصوت الشجيّ الذي أطرب مسمعه وراح يوصي الموصلي بتلميذه خيرا، فهل عمل الموصلي بوصية الخليفة؟

حينها بدأت الغيرة تدب في قلب المعلم، وتغير كل شيء، اندفعت نوازع الشرّ فيه خوفا من أن يأخذ زرياب مكانته عند الخليفة، فطلب من تلميذه مغادرة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، وأن يمضي إلى الغرب يلتمس حظه هناك، وإن لم يفعل كان مصيره الموت، ولأن يد إسحاق كانت طويلة في بغداد، لم يكن لزرياب وهو الغلام الأسود إلاّ أن يخاف ويفرّ على عجل متجها نحو بلاد الأندلس.

وربما كان لانتقال زرياب إلى الأندلس التأثير الكبير فيه من خلال تعرفه على شعراء مختلفين وعلى بيئة ونمط حياة أكثر انفتاحا، وقد أثرت فيه الأندلس كما أثر فيها.

وتذكر الباحثة كيف جاء زرياب إلى الأندلس فارًا من تهديد معلمه وكيف مر في رحلته بالكثير من الأمصار وفي كل واحد منها كان يترك أثره الفني هناك، وصولا إلى تمكنه من دخول الأندلس وإنجازاته فيها حيث تذكر افتتاحه لمعهد موسيقي وإضافته الوتر الخامس للعود بعد أن كانت أوتاره أربعة، وإضافة مقامات لم تكن معروفة قبله، وفي فترة وجيزة خلق زرياب حركية موسيقية كبيرة لم تشهد الأندلس لها مثيلا.

وساهمت ثقافة زرياب الموسوعية وحكاياته التي يحملها عن بلاد المشرق في أن يكون الجليس المحبب لأعيان البلاد وحكامها، الذين أدخل إلى مجالسهم الموسيقى والطرب وحتى عادات المجالس الفخمة التي اعتاد عليها الخلفاء.

لكن ووفق الباحثة آسيا بلمحنوف، فإن زرياب رغم ما قدمه للفن والثقافة كان في رأي عرب كثيرين بمثابة اللعنة على الأندلس، فكيف ذلك؟

سبب الدمار

يعتقد الكثير من المسلمين أن زرياب ساهم في سقوط الأندلس وتقهقرها، ففي رأيهم فقد انطلقت معه مجالس السمر والطرب واللهو، وانصرف القائمون على شؤون البلاد إلى ما لا ينفع الرعية، وما يبعدهم عن المجد ورسالة الدين الإسلامي وغيرها من الادعاءات.

ربما فعلا شهدت الأندلس مغالاة في اللهو من قبل حكامها وأعيانها، لكن لا يد لزرياب في هذا، فكل ما أتاه الفنان هو إحداث ثورة في الموسيقى العربية، وتأسيس مسارات جديدة ومختلفة كليا لها.

شهدت الأندلس أبرز مظاهر الحضارة الإنسانية من خلال الفن والفكر والأدب، تطور فيها الشعر وولدت فيها الموشحات، وعرف المجتمع نقلة كبيرة، فيها عرفنا قصص الحب، والاكتشافات العلمية، في الأندلس عرف الشعر تحولات كبرى مع الشاعر الشهير ابن زيدون وأبي البقاء الرندي وقصائد الولادة بنت المستكفي. وفيها ولد الفكر الفلسفي في أوج عبقريته مع ابن رشد، ومن قبله ابن الكتاني وابن مسرة، وأغلبهم لاحقون لزرياب.

لقد ساهم زرياب في جعل الموسيقى متاحة للجميع، حيث لم يخصص علمه وموهبته ومعارفه فقط للأعيان، بل تتلمذ على يده الكثير من الموهوبين من الأندلس ومن الوافدين من خارجها من الذكور والإناث، فكما كانت الموهبة وحدها سبيله للمجد، فقد آمن بها طريقا لكل من يبتغي أن يحقق ذاته في الفن. كما أنه أدخل عادات اجتماعية جديدة حتى في الأكل واللباقة، حيث اشتهر بإقامة الولائم الفخمة وتنسيقها وترتيبها وكان ذلك كله النواة الأولى في فخامة قصور ملوك الأندلس.

ويقول مدّعو لعنة زرياب كما جاء في مقالة الباحثة بلمحنوف إنه “صرف الناس عن دراسة القرآن وسماع حكايات الصحابة إضافة إلى انتشار مجالس المجون والطرب والرقص”.

وهذه الحجج الأخلاقية مردود عليها ببساطة، فالموسيقى التي يراها المنغلقون أداة مجون، هي في الحقيقة أداة انفتاح ووعي وانفتاح، ليست فقط فنا وإبداعا، إنها تحقيق لإنسانية الإنسان، فكما يقال “وحدهم الأشرار لا يغنون”.

ثم إن ما طرأ في الأندلس بعد زرياب من رفاه وتطور حضاري كبير، كان جليا لا شك فيه، حتى أن العرب إلى اليوم يعتبرونها “الفردوس المفقود”، ولم يؤثر في الأندلس إلا الانقسام الداخلي، والتعصب الطارئ الذي لاحق الفلاسفة وأصحاب الفكر، والتهديد الخارجي، الذي أضعف الأندلس وقسمها إلى دويلات صغيرة متناحرة، ما أدى إلى سقوطها في النهاية وتشرد ناسها من المسلمين واليهود.

المصدر: العرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *