من عبق التاريخ

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا.. شرحُ لأجمل قصائد الراحل نزار قباني عن غرناطة

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا * ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد
عينان سوداوان في حجريهم * تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد
هل أنت إسبانية ؟ ساءلـتها * قالت: وفي غـرناطة ميلادي
غرناطة؟ وصحت قرون سبعة * في تينـك العينين.. بعد رقاد
وأمـية راياتـها مرفوعـة * وجيـادها موصـولة بجيـاد
ما أغرب التاريخ كيف أعادني * لحفيـدة سـمراء من أحفادي
وجه دمشـقي رأيت خـلاله * أجفان بلقيس وجيـد سعـاد
ورأيت منـزلنا القديم وحجرة * كانـت بها أمي تمد وسـادي
واليـاسمينة رصعـت بنجومه * والبركـة الذهبيـة الإنشـاد

ودمشق، أين تكون؟ قلت ترينه * في شعـرك المنساب ..نهر سواد
في وجهك العربي، في الثغر الذي * ما زال مختـزناً شمـوس بلادي
في طيب “جنات العريف” ومائه * في الفل، في الريحـان، في الكباد
سارت معي.. والشعر يلهث خلفه * كسنابـل تركـت بغيـر حصاد
يتألـق القـرط الطـويل بجيده * مثـل الشموع بليلـة الميـلاد..
ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي * وورائي التاريـخ كـوم رمـاد
الزخـرفات.. أكاد أسمع نبـضه * والزركشات على السقوف تنادي
قالت: هنا “الحمراء” زهو جدودنا * فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي
أمجادها؟ ومسحت جرحاً نـازف * ومسحت جرحاً ثانيـاً بفـؤادي
يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت * أن الـذين عـنتـهم أجـدادي
عانـقت فيهـا عنـدما ودعته * رجلاً يسمـى “طـارق بن زياد”

محتويات

نزار قباني (1923 – 1998 م)

نزار قباني (1923م- 1998م)، هو شاعر سوري، يُعد من رواد الشعر الحديث، له العديد من الدواوين الشعريّة والتي بلغت ما يُقارب 36 ديوانًا، ومن ضمنها ديوان الرسم بالكلمات، وهو الديوان الذي وردت فيه قصيدة غرناطة، أو كما تُسمى بقصيدةِ في مدخل الحمراء، إذ يقف الشاعر في هذه القصيدة على آثار غرناطة، تلك الآثار التي أصبحت رمزا لضياع الوطن، ثم يلتقي الشاعر بفتاة تفتخر بتراث أجدادها على مدخل قصر الحمراء، ممّا يثير أحزانه من خلال استحضار أمجاد العرب وانتصاراتهم.

قصر الحمراء
قصر الحمراء في غرناطة

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا.. شرحُ

في مَدخلِ الحَمراءِ كَانَ لِقاؤُنا ما أطيَبَ اللُقيا بِلا مِيعادِ

يبدأ الشاعر القصيدة بذِكر مكان اللقاء الأول، وهو اللّقاء الحاصل في قصر الحمراء، إذ كان هذا اللقاء دون ميعاد يُذكر وإنّما بالصدفة الواقعة حينها، فيؤكد الشاعر أنّ هذه الصدفة أجمل وأروع من ألف لقاء مُتفق عليه. عَينانِ سَوداوانِ فِي حَجرَيهما تَتوالدُ الأبعَادُ مِن أبعادِ يستمر الشاعر بوصف اللقاء، فيقتصر في هذا البيت بوصف جمال عيون هذه الفتاة، فهما عينان سوداوان تحملان الملامح العربيّة الأصيلة والخالصة، ويقول إنّ عيون هذه الفتاة الجميلة قد عادت به إلى التاريخ القديم، أي إلى الأبعاد الماضيّة.

هَل أنتِ إسبانيةٌ؟ ساءَلتُها قالَتْ: وفي غـرنَاطةٍ مِيلادي

يُضيف الشاعر في البيت السابق الحوار، فيستذكر الحوار الحاصل بينه وبين الفتاة، إذ يتعجّب من جمالها فيسألها: هل أنت إسبانيّة؟ فأجابت أنّها إسبانيّة الأصل، بيد أنّ مكان مولدها الحقيقي في غرناطة. غَرناطَةٌ؟ وصَحَت قُرونٌ سَبعَةٌ في تَينـِكَ العَينَينِ بَعدَ رُقَادِ يقول الشاعر هنا إنّ الفتاة بحديثها عن غرناطة أيقظت به سبعة قرون ماضية، وهي قرون حكم الأمويين للأندلس، فالشاعر هنا يستحضر أمجاد المسلمين العرب القدماء، بعد أن كانت راقدة، وذلك الاستحضار كان سببه تينك العينين، أي هذه العينين الجميلتين.

وأُميَّةٌ راياتُهَا مَرفوعَةٌ وجيادُها موصُولَةٌ بِجِيادِ

يستذكر الشاعر هنا بني أميّة وراياتهم المرفوعة حين فتحوا الأندلس، كما يستذكر خيولهم الأصيلة، كما أنّ هذا الاستحضار يُشير إلى الحزن والأسى على هذه الذكرى التي ولّت ومضت.

مَا أغربَ التَّاريخَ كَيفَ أعادَني لِحَفيـدةٍ سَـمراءَ مِن أحْفَادي

يستخدم الشاعر في البيت السابق أسلوب التعجب، فهو يتعجّب من التاريخ كيف أعاده إلى إحدى أحفاده، وهذا التاريخ هو ما تشكّل في جمال الفتاة وروعة عينيها، تلك الروعة التي أعادت ملامح التاريخ العربي إلى ذاكرته، وكأنّها إحدى الحفيدات العرب.

وَجهٌ دِمشقيٌ رَأيتُ خِلالَهُ أجْفانَ بَلقيسٍ وجِيـدَ سُعَادِ

يستمر الشاعر باستذكار التاريخ من خلال ملامح هذه الفتاة الجميلة، فتلك الملامح الدمشقيّة رأى من خلالها أجفان بلقيس ملكة سبأ في اليمن، وجيد سعاد وهو جمال عنق سعاد، فسعاد هي امرأة عربيّة، ذكرها الشعر العربي القديم، كما في أبيات وقصائد زهير بن أبي سلمى.

ورأيتُ مَنـزَلنا القَديمَ وحُجرةً كانَتْ بِها أُمي تمدُّ وِسَادي

يتعلّق الشاعر بالذكرى، فمن خلال المكان العام يلجأ إلى المكان الخاص والمُغلق وهو منزله القديم، فيستذكر الغرف الصغيرة التي بعثت مشاعر الحنين إليه، ثمّ يتذكر حضن أمه وحنانها عليه في كل ليلة تخاف عليه من البرد فتمد الوسادة الدافئة له.

والياسمينةَ رُصِّعَـتْ بِنجومها والبِركةَ الذَّهبيّةَ الإنشَادِ

يستمر الشاعر هنا في صورة الذكرى ووصف المكان الذي كان ينشأ به، فهو مكان مليء بالنجوم التي تُمثل الجواهر المرصَّعة بالذَّهب، كما يستذكر البِركة الذهبيّة الصافيّة والتي كانت غزيرة الماء بإنشادها وتدفقها.

ودِمشقُ، أينَ تَكون؟ قُلتُ تَرينَها في شَعرِكِ المُنسَابِ نَهرَ سَوادِ

ينتقل الحوارهنا إلى الفتاة، فتسأل الفتاة الشاعر أين تكون دمشق؟ فيُجيبها الشاعر أنّ دمشق الآن حولك فأنت ترينها فهي متمثّلة فيكِ من خلال جمال شعرك المنساب كالنهر.

في وَجهِكِ العَرَبيِّ، في الثَّغرِ الَّذي ما زالَ مُختَـزِنًا شُمـوسَ بِلادي

يستمر الشّاعر هنا بوصف دمشق، تتمثّل في وجه الفتاة الذي يحمل الملامح العربيّة، وفي ثغرها الذي يجمع بين شموس البلاد العربيّة، فالشاعر هنا يستحضر جمال بلاده من خلال جمال هذه الفتاة.

في طِيبِ “جَنَّاتِ العَريف” ومَائِهِا في الفُلِّ، في الرَيحان، في الكَبَّادِ

يستمر الشّاعر بوصف جمال دمشق، فيقول إنّها موجودة هنا في غرناطة وفي جنات العريف ومائه، كما أنّها موجودة في كل شيء جميل، كالزهور من الفل والريحان وأشجار الكباد أيضًا، فالشاعر هنا يفتخر بجمال وطنه وروعته.

سارَتْ مَعي والشَّعرُ يَلهثُ خَلفَها كَسنابلٍ تُركتْ بِغيـر حِصادِ

ينتقل الشاعر في البيت السابق إلى وصف الفتاة عندما سارت معه لتُعرّفه على بلادها، فيصف جمالها وجمال شعرها الذي يُشبه السنابل، والشاعر هنا عندما يصف جمال هذه الفتاة هو في الحقيقة يصف جمال بلاده ووطنه.

يتألّقُ القرطُ الطَّويل بأُذنِها مِثـلَ الشَّموعِ بِليلةِ المِيلادِ

يستمر الشاعر في البيت السابق بوصف جمال هذه الفتاة، ويستحضر شيئًا آخر زاد من جمالها وهي أقراطها التي تُزينها، فشبّه هذه الأقراط بشموع عيد الميلاد وهو هنا يستذكر ليالي الميلاد في ذاكرته وتاريخه.

ومـَشيتُ مِثلَ الطِّفلِ خَلفَ دَليلتي وورائيَ التَّاريخ كَـومُ رَمادِ

يقول الشاعر إنّه مشى وراء الفتاة ولكنَّه كان يمشي كالطفل التائه الذي لا يستذكر أيّ شيء من ملامح وطنه، ثم يتذكّر التاريخ الذي أحرق صفحات العرب، ولم يبقَ منه إلّا الرماد الذي يدلّ على هذه الحرائق، وذلك الرماد هو الدّليل على الانتصارات والأمجاد التي قام بها العرب.

الزَّخرفات أكادُ أسمعُ نَبـضها والزركشاتُ على السُّقوفِ تُنادي

يتأمل هنا جمال هذه الزخرفات التي زيّنت بلاده وكأنّها تنبض من شدّة جمالها، كما أنّ الزركشات المُتزيّنة على السقوف كأنّها تريد أن تنطق من شدة عُمقها وتعبيرها عن أمجاد العرب وحضارتهم.

قالتْ: هُنا “الحمراء” زَهو جُدودِنا فاقرأ على جُدرانِها أمجَادي

تُعرّف الفتاة الشّاعر في البيت السابق على قصر الحمراء، وتقول إنّ هذا القصر هو فخر أجدادها العرب، حيث تشهد جدران هذا المكان ونقوشاته على أمجاد الأجداد العرب وانتصاراتهم.

معاني المفردات في قصيدة في مدخل الحمراء مدخل الحمراء

المقصود به هو قصر الحمراء الموجود بالأندلس، والذي بناه حُكّام غرناطة المسلمين راية: جمع رايات، وهي العلم والعلامة المرفوعة عاليا للرؤية. جياد: جمع جواد، وهو الخيل سريع الجري. جيد: العنق الجميل. حُجرة: الغرفة في أسفل البيت. الثغر: الفم. الكبَّاد: هو شجر من الفصيلة السَّذابية، ولا يؤكل ثمره بل يصنع منه رُبّ. يلهث: أصابه التعب والإعياء. الزخرفات والزركشات: وهي فن تزيين الاشياء، بالتطريز، أو النقش. زَهو: الفخر.

الصور الفنية في قصيدة في مدخل الحمراء

ودِمشقُ، أينَ تَكون؟ قُلتُ تَرينَها في شَعـرِكِ المُنسَابِ نَهرَ سَوادِ شبّه الشّاعر في البيت السابق دمشق وجمالها بجمال شعر الفتاة، فصُرح بالمشبه وهو دمشق، والمشبه به وهو شعر الفتاة، والتشبيه هنا هو تشبيه بليغ، كما شبّه الشاعر في البيت نفسه شعر هذه الفتاة بالنهر الأسود، والتشبيه هنا أيضًا بليغ، إذ ذُكر المشبه شعر الفتاة المنساب، وذُكر المشبّه به وهو النهر الأسود.

سارَتْ مَعي والشَّعرُ يَلهثُ خَلفَها كَسنابلٍ تُركتْ بِغير حِصادِ شبّه الشّاعر شعر الفتاة خلفها وهي تمشي بالسنابل التي تعصف وتضرب بها الرياح دون أن تُحصد، وعدم الحصاد هنا إشارة إلى جمال شعر هذه الفتاة وغزارته وشدة طوله، والتشبيه هنا هو تشبيه بليغ، كما شبّه الشاعر شعر الفتاة بالإنسان الذي يركض ويلهث من شدة الركض، وهنا ذكر المشبه وحذف المشبه به فالاستعارة هنا هي مكنيّة.

أعداد السياح، قصر الحمراء، غرناطة

يتألّقُ القـرطُ الطَّويل بأُذنِها مِثلَ الشَّموعِ بِليلةِ المِيلادِ شبّه الشّاعر القرط الطويل الذي يزين أذن هذه الفتاة الجميلة بالشموع المضيئة التي تُزين ليالي الميلاد، وهنا صرّح الشاعر بالمشبّه وهو القرط والمشبه به وهو شموع ليالي الميلاد، فالتشبيه هنا هو تشبيه مرسل بسبب ذكر أداة التشبيه أيضًا وهي كلمة مثل.

ومـَشيتُ مِثلَ الطِّفلِ خَلفَ دَليلتي وورائيَ التَّاريـخ كَـومُ رَمادِ يُصور الشاعر نفسه في البيت السابق بالطفل التائه الذي يمشي خلف دليله، فحذف الشاعر نفسه وهو المشبه وذكر المشبه به وهو الطفل، فالاستعارة هنا هي استعارة تصريحيّة، كما يشبّه الشاعر التاريخ بالنيران المتصاعدة، والتي خمدت فولّدت وراءها الرماد، فذكر المشبه وهو التاريخ وحذف المشبه به النيران، والاستعارة هنا هي استعارة مكنيّة.

الزَّخـرفات أكادُ أسمعُ نَبـضها والزركشاتُ على السُّقوفِ تُنادي شبّه الشّاعر في البيت السابق الزخرفات والزركشات التي تُزين وطنه بالإنسان الذي ينبض وينطق ويُنادي، وهنا ذكر الشاعر المشبّه وهو الزخرفات والزركشات، وحذف المشبّه به وهو الإنسان، والاستعارة هنا هي استعارة مكنيّة.

الشاعر نزار قباني شاعر ودبلوماسيٌّ سوري دمشقي، وُلد نزار قباني في دمشق عام 1923م في عائلة تهتم بالأدب والثقافة والفن، وعاش في حواري دمشق، وتخرَّج من جامعة دمشق قسم الحقوق، ودخل بدعها مجال السياسة ليشغل منصب سفير سوريا في عدد من الدول حول العالم، تقاعد نزار عام 1966م وأسس لنفسه دار نشر في بيروت وبدأ بنشر كتاباته.

ويعدّ نزار الشاعر الأكثر جماهيرية بين الشعراء العرب في القسم الثاني من القرن الماضي، تزوج من بلقيس الراوي في قصة حب شهيرة وتوفيت زوجته في تفجير في بيروت، عاش نزار أواخر حياته في لندن وتوفي هناك عام 1998م ودُفن في دمشق، وفي هذا المقال شرح قصيدة في مدخل الحمراء التي كتبها نزار في مدريد.

إسبانيا بالعربي.

أخبار إسبانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *