العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء الرابع “نقد المصادر”

أخبار إسبانيا بالعربي – سيُصابُ القارئ بالدهشة حين يعلم أنه لا وجود لشهادات معاصرة وصفت غزو العرب لإسبانيا أو على الأقل لها صلة بهذا الحدث. إنه ذات الشعور الذي انتاب المؤرخ إيغناسيو أولاغوي قبل ثلاثين عاما عندما تحقق من هذا الأمر بُعيدَ شروعه في هذا البحث الذي نسرد تفاصيله. لقد تكررت في جميع النصوص, بروتينيةٍ عجيبة, رواياتٌ متشابهة لخرافةٍ اختُرعت في العصر الوسيط. ألا يُحيلُ البعض, حتى أيامنا هذه, على رواية شاهدٍ عايش الأحداث, هو الأسقف إيزدورو الباجيIsidoro Pacense , رغم إثبات طابعها الخرافي قبل أكثر من قرن؟ لم تُكتَب هذه الفقرة من التاريخ القومي بشكل جامح فقط, بل و من دون أدنى توثيق.

طالع أيضا : العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء الأول (مقدمة)

يصف المؤرخ العلامة الهولندي رينهارت دوزيReinhart Dozy في “أبحاثه” هذه الحقبة بعبارات مقتضبة لكنها بليغة: “فترة خصبة بالنسبة للروائي و الشاعر, لكنها ثغرةٌ بين إخباريات شبه الجزيرة الإيبيرية”, و هذا عين ما لاحظه المؤرخ الإسباني إدواردو سافيدرا Eduardo Saavedraحين أورد: “منذ عهد وامبا (المزداد عام 672م) إلى عهد ألفونسو الثالث ملك ليون (المُزداد عام 866م), لم يكتب لا مسيحيو الشمال و لا عرب و مستعربو الجنوب شيئا وصل إلى علمنا” (21). في هذه الحالة و أمام اقتضاب الإخباريات اللاتينية لم يتردد المؤرخون الغربيون القدامى في الاقتباس من المخطوطات العربية القديمة التي كُتبت قرونا بعد الأحداث التي تدَّعي روايتها, و هي ليست سوى ذكريات مغامرات مثيرة قام بها زعماء أمازيغ, و بعد صياغتها لتُحاكي أساطير خرافية مصرية أصبحت الأساس التاريخي لأسطورة غزو إسبانيا من طرف جيوش جاءت من الجزيرة العربية البعيدة.

طالع أيضا : العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها: الجزء الثاني (الغزو العربي المزعوم)


الإشكالية ذاتها و المتمثلة في غياب توثيق معاصر تطرح نفسها في جميع مناطق الحوض المتوسطي, في شمال إفريقيا كما في الشرق الأوسط, في إسبانيا كما في الامبراطورية البيزنطية. إنها لَمصادفة عجيبة ألاَّ نجدَ و لا نصا واحدا أو عملا أدبيا يعود لتلك الفترة رغم كونها واحدة من الفترات الحاسمة في تطور البشرية. هذه الظاهرة تجد تفسيرا لها في سبب واحد: بلوغ الصراعات الدينية آنذاك ذروتها في هذه المناطق, حيثُ أُتلِفت بدافع التعصب كل وثيقة كان يشكل بقاءها ضررا على الأفكار المُدافَعِ عنها خلال تلك الحروب الأهلية الرهيبة.

يقول الفرنسي لويس بريهيي Louis Bréhier عمدة مؤرخي الإمبراطورية البيزنطية: ” لا نجهل شيئا عن التاريخ البيزنطي طيلة عشرة قرون, من بروكوبيوس القيسراني (القرن الخامس) حتى جرجس سفرانتزس (القرن الخامس عشر) و ذلك بمساعدة سلسلة من الإخباريات, التواريخ السياسية و السير الذاتية و المُذكرات المحفوظة في سجلات عديدة و جيدة. كل قرن أنتج إخبارية و مؤرخا. لا توجد سوى ثغرة واحدة من نهاية القرن السابع حتى بداية القرن التاسع, و هي فترة الغزوات العربية و صراعات تحطيم الأيقونات. لقد ضاعت خلالها إخباريات تلك الفترة لكن أعمالا لاحقة تعطينا فكرة عن أحداثها” (22).
في حقيقة الأمر, لا تُعطي هذه الأعمال اللاحقة أي فكرة و لا تُلقي أي ضوء عما حدث لا في بيزنطة ولا  في طليطلة أو قرطبة. و هذا أمر عادي و طبيعي, بل هو ثابت تاريخي: فليس هناك أصعب من إعادة تركيب رأي عام بائد. عندما تغير الرأي, تلاشى في الهواء, فعجز المؤرخون اللاحقون عن إعادة بعثه في صفحاتهم, خصوصا و أنهم كانوا يجهلون أهمية أفكار المجتمع في تطور الأحداث. فالحوادث المادية و المهمة كزلزال, وفاة أمير, وباء, حصار مدينة عظيمة, كسوف, هي وقائع تترك بصمتها في عقول الناس و تبقى ذكراها حية في التراث. أما الرأي, و هو غير مادي, إذا تغير أو اختفى لا يترك أي أثر, خاصة في تلك العصور المبكرة حيث كان التوثيق الكتابي نادرا. للوقوف على مدى العجز عن إعادة تركيب رأي قديم, يكفي استحضار الصعوبات التي واجهها المؤرخون لنفض الغبار عن الجو العام للقرن السادس عشر بجدالاته اللاهوتية و حروبه الأهلية. فرغم قرب عهدنا به, تبقى جوانب مهمة من أحداثه عصية على الفهم إلى اليوم.

طالع أيضا : العرب لم يستعمروا إسبانيا بل عمَروها – الجزء الثالث: رؤية نقدية عامة.


كانت هناك عدة حواجز منيعة يصعب تجاوزها لإدراك الفهم الصحيح للأحداث, خصوصا إذا كان الرأي البائد المُراد إعادة تركيبه مُعارضا للرأي السائد في عصر الإخباري. من كان قادرا آنذاك, في غياب أية منهجية للبحث التاريخي, على الوصول لفهم رأيٍ ليس رأيه, و إنما رأياً كان يتبناه من قبل قومه و أبناء أمته؟ و لنفترض أنه بقدرة قادر و بمجهود نادر تمكن إخباريٌ ما من فهم الدراما التي حصلت, هل كان بإمكانه عرضها بكل أمانة على مواطنيه دون أن يتم حرقه حيا أو تُسمَلَ عينيه كما جرت بذلك العادة في الامبراطورية البيزنطية؟
من السهل اليوم دراسة مختلف الفترات التي عاشتها الإنسانية و البحث فيما كان يُفَرِّقُ بين أولئك الذين سادت فيهم دوغمائية جامدة و أولئك الذين ازدهرت عندهم الروح النقدية. في عصور سابقة, في مجتمع أصابه الإكليروس بداء الجمود فأعاقوه عن التطور, لم يكن من السهل فهم, و بالأحرى التفسير للغير, كيف تشكل هذا الجمود في العقول. هناك نظرية لعلماء النفس تقول أن الأزمة النفسية تنكشف إذا عُرفَ سببها. فلو كان بمقدور البيزنطيين فهم كيف و لماذا عدد كبير من أجدادهم –غالبيتهم من أقاليم آسيوية يملكون نفس تراثهم الثقافي – اعتنقوا أفكارا دينية كانت تتطور نحو الإسلام لأفلست دوغمائيتهم , و لتزعزعت أركان دولتهم اللاهوتية.

طالع أيضا : يصادف اليوم 16 نوفمبر اليوم العالمي لرقصة الفلامنكو : فهل تعلم ما علاقة ذلك بالأندلس والأندلسيين في العالم ؟!

في هذه الظروف, حمل بعض المؤرخين على عاتقهم مهمة كتابة تاريخ العالم اعتمادا على ما يملكون من إمكانات فكرية, و  عندما أرادوا تأريخ حوادث القرنين السابع و الثامن الميلاديين حيث جرت تغييرات دينية جذرية, اصطدموا بحائط , أو بمعنى أدق ضاعوا وسط الضباب الذي يُغلف تلك الفترة. و لأنهم كانوا مجبرين على مواصلة الطريق و التأريخ لتلك الفترة ساروا في الطريق الوحيد المعروف آنذاك: خرافة غزو العرب للعالم.

كان فهم أحداث جرت قبل قرنين أو ثلاثة أمرا صعبا بالنسبة للإخباريين البيزنطيين و اللاتينيين و أيضا بالنسبة لنظرائهم المسلمين. لهذا, ناسبت هذه الخرافة الجميع, خاصة في الفترة التي كانت تسود فيها دوغمائية جامدة هاذين المعسكرين المتقابلين. كان من المريح للمفكر النصراني القول بأن قوة عدائية بعيدة و مجهولة غزت جزءا من البلاد, على الاعتراف بوجود رأي آخر, مناقض للسائد في عصره, و أن عددا كبيرا من أجدادهم انخرطوا في هذا الرأي. كما كان من الملائم للإخباري العربي تمجيد إنجازات أجداده ما كان يُلهبُ الحماس و الاعتزاز الجماعي بالذات, على الاعتراف بنفس الحقيقة لكن من الجهة المعاكسة: ازدهار أفكار أخرى تختلف عن السائدة آنذاك في الأذهان.

طالع أيضا : ماذا لو عاش الطبيب أبو جعفر الغافِقي القرطبي في عصر الجهل “المُستنير”؟


لم تكن الإخباريات النصرانية و العربية التي اهتمت بالغزو المزعوم لإسبانيا أو أشارت إليه قادرة على التخلص من التبعية للخرافة. هذا ليس تخمينا عشوائيا من جانبنا, فنحن نملك الشهادات الكافية للبرهنة على وجود هذه التبعية في القرن التاسع. مثلا, ارتابَ المفكرون المسلمون الأندلسيون في الأحداث التي جرت على أرضهم و لاستقصاء صحتها من عدمه قصدوا علماء مصريين ليستفتوهم فيها. سنُحلل هذه المسألة في الفصل الثاني عشر حينما نناقش تشكيل الأسطورة. الآن يكفي أن نعرف أن المؤرخين المشرقيين المُستفتون نقلوا لتاريخ إسبانيا تأويلهم للأحداث التي جرت في مصر في القرن السابع الميلادي. هكذا إذن و على غرار ما جرى في أرض الفراعنة, غزا العرب الجزيرة الإيبيرية. رُفِعت الأقلامُ و جفت الصُحُف.  الطُرفةُ الصغيرة اللطيفة أصبحت رواية تحمل ملامح الحقيقة التاريخية.
ما أعجبها من مغامرات…فهنا موسى و جنوده العرب يقاتلون أصناما نحاسية ترمي سهاما لا تُخطئ الهدف. لا بل هي مدينة يقطنها عفاريت نصحوا بكل أدب موسى بالذهاب بموسيقاه إلى مكان آخر. نصيحةُ سارع لتنفيذها بطلنا الحذِر. و هناك بين الكنوز الطليطلية التي خلَّفها القوط, عثرَ على قمقمٍ سجَنَ فيه النبي سليمان الجنَّ. كان موسى يجهل هذا الأمر, ففتح القمقم ليخرج منه عفريتٌ سجين, و بعد تحيته تحيةَ تليق بملك من بني إسرائيل قال لهُ العفريت: “يا نبي الله سليمان ! لن أعود إلى الخبث الذي كان يظهر مني”. صحيح أنه مع مرور الوقت أقصى المؤرخون هذه الحكايات الخرافية, لكن لا أحد منهم تجرأ على إسقاط جوهر الأسطورة التي تعتمد عليها هذه الحكايات. و رغم ربط العلامة دوزي لأسطورة الغزو بأصول مصرية إلا أنها استمرت في كل كتب التاريخ. 

من ناحية أخرى, كُتبت أهم النصوص العربية بعد الأزمتين المرابطية ثم الموحدية و اللتان أَطلق عليهما الباحث الفرنسي جورج مارسيGeorges Marçais “الإصلاح الإسلامي المُضاد”, و هي حركة أفكار شهدتها البلاد المغاربية و الأندلسية في القرنين الحادي عشر و الثاني عشر تقررت و تحدّدَت من خلالها العقيدة الإسلامية. قبل هذا التاريخ لم يكن هذا الدين الجديد قد وصل في هذه المناطق الهامشية الدوغماتية التي تميزه اليوم. قبل ذلك لم تكن الديانتان النصرانية و المحمدية متباعدتان بهُوَةٍ لا يمكن عبورها حيث, كما سنرى في فصل قادم, كانتا متمازجتان و تشكلان صُهارة خَلاَّقةً في أوج غليانها. لكن, ببطء شديد و بمرور القرون, ظهر لاحقا الخلاف بينهما بعد استقطابهما إلى طرفين متناقضين أشد التناقض.
الآن بات بإمكاننا فهم أهمية تاريخ هذا الإصلاح المضاد لتحليل النصوص العربية. فالإخباريات التي جاءت بعد هذا الإصلاح تعود لكُتَّابٍ نعرف شخصياتهم بشكل تام و قد كُتِبت في فترة كان مناخها الديني مختلفا تماما عن المناخ السائد قبل أربعة قرون حينما جرت أحداث الغزو المزعوم. الاعتماد على هذه الإخباريات لكتابة تاريخ القرنين السابع و الثامن الميلادي لا بُد و أن يقود لاستنتاجات خاطئة؛ و كأن المؤرخين الأوربيين لاستعراض أحداث القرون الوسطى المبكرة في الغرب بحثوا عن التوثيق في الكتابات الجدلية لمؤلفي القرن 16 المهووسين بالحروب الدينية. لقد اتخذت خرافة الغزو العربي سياقها النهائي اعتبارا من القرن الثاني عشر ميلادي بدفع من هذا الإصلاح المضاد. حينما عجز المؤرخون المسلمون عن إيجاد تفسير عقلاني لهذه الأحداث أقحموا المساعدة الإلاهية في المسألة للخروج من هذا المأزق. هكذا إذن تدخلت العناية الربانية لتمنح المؤمنين التفوق العسكري. و بالتالي انتشار الإسلام في إسبانيا كان مسألة إعجازية,  حيث ساعدت العناية الربانية أتباع النبي. لقد استبق المؤرخون و اللاهوتيون المسلمون بقرون طويلة نظريات رجل الدين الفرنسي جاك بينيين بوسويه.
هكذا إذن وَجبَ إقصاء النصوص العربية المُؤَلَفة وقت الإصلاح المضاد أو بعده من دراسة انتشار الإسلام في البلاد المغاربية و في شبه الجزيرة الإيبيرية. قد تكون مفيدة لفهم الفترة التي تلت الغزو, لكن لا شيء يُرتجى منها لتفسير أو حل المسألة التي تهمنا. نفس الحُكم يسري على المُؤلَفات اللاتينية التي ظهرت في نفس الفترة لاتباعها سبيل المؤَلِفين المسلمين.

ي المعسكر النصراني, قدَّم الأسقف و المؤرخ الإسباني رودريغو خمنيث دي رادا Rodrigo Jimenez de Arada(القرن 13 ميلادي) خرافة الغزو في نسختها النهائية و ذلك من خلال أعماله التاريخية. لقد أعطى لهذه الصلصة الغربية نكهة شرقية. و بالتالي الساكنة الإسبانية اُخضِعت بالحديد و النار. أما العقيدة النصرانية فلم تتضرر جراء ذلك, لأن السراسنيين (نسبة لسارة) كانوا عقابا من السماء نتيجة الذنوب و المعاصي التي ارتُكبت في عصر الملوك القوط. بعد ذلك أُضيفت الرواية التفصيلية: إغواء لوذريق ملك طليطلة القوطي لابنة الكونت يوليان حاكم سبتة, و كانت هذه الحادثة هي النقطة التي أفاضت الكأس, و قطعت حبل الود نهائيا بين الرجلين. فحتى ينتقم لشرف ابنته, وجَّه الوالدُ المفجوع المسلمين نحو السواحل الاندلسية. و هنا حلَّ الغضب الإلاهي و تخلت العناية الربانية عن النصارى لتجتاحهم موجة جبارة من الفرسان العرب غطت كامل البلاد.
بالنسبة لأهداف بحثنا هذا, تحظى الإخباريات اللاتينية السابقة للقرن الحادي عشر بدرجات أهمية متفاوتة. صحيح ألاّ واحدة بينها تُقَدم إضافة جدية للأحداث السياسية سواء على الصعيد المحلي أو الدولي, غير أن أقدمها, أي تلك التي كُتبت 150 سنة بعد الغزو المزعوم, كانت أكثر قربا من الجو العام السائد في بداية القرن الثامن, و هي بالتالي تضم بين ثناياها رجع صدى لبعض ما حدث في تلك الفترة لا نجده في الإخباريات المتأخرة. و يُعدُ هذا أهم أوجه الاختلاف بينها و بين الإخباريات الأمازيغية. في اللاتينية, يمكن استخراج كلمات و تعابير مشتقة من رأي عام قديم لا تتماشى البتة مع التأويل الكلاسيكي للأحداث. بالإمكان الوقوف في هذه النصوص على مصادر الخرافة و تحديد تطورها المستقبلي. لا يمكن القيام بشيء من هذا مع الإخباريات الأمازيغية المختلفة تماما عن نظيراتها النصرانية. رغم تدوينها في القرن الحادي عشر إلا أنها كانت عاجزة عن نقل صور من المجتمع المُتحوِّل, و كان الحاضر يحجبُ عنها الماضي. كان كُتابها عاجزين عن تبديد الضباب المحيط بهم, ضباب كثيف إلى درجة حَجَب عنهم اختلاف الأجيال السابقة عن جيلهم سواء من حيث نمط العيش و حتى نوعية المشاكل. كما أنها تختلف عن تلك التي أتت لاحقا, فهي أقل دوغمائية من تلك التي دُوِنت بعد الإصلاح المضاد للمرابطين و الموحدين, و أحيانا لادينية و تستعرض التراث المحلي الشمال إفريقي.
من جهتنا, نحن على يقين تام بوجود نصوص في القرنين الثامن و التاسع كانت تمثل فكر الإسبان أنصار المذهب التوحيدي, أي ما قبل مسلمين. كُتبت هذه النصوص باللاتينية و قد حاربها النصارى المُثلثون و تخلى عنها المُعتنقون للإسلام الذين تعلموا العربية فنسوا لغة أجدادهم. هكذا اختفت تلك النصوص و لم يتبقى منها سوى رجع صدى في بعض الإخباريات اللاحقة لم تصلنا منها سوى اثنتين فقط: واحدة نصرانية تُنسبُ لإيزيدورو الباجي, و أُخرى كُتبت بالعربية لصاحبها أحمد الرازي. كلتاهما تعطيان انطباعا خاصا جدا؛ و لأن مؤلفيهما عاشا في جنوب شبه الجزيرة, سنًطلقُ عليها : إخباريات أندلسية.
تنتمي هذه الإخباريات الأندلسية لأسلوب تاريخي يغلب عليه التأثير البيزنطي, و هي بالتالي تختلف كثيرا عن الإخباريات الأمازيغية. من المحتمل جدا أن مؤلفيها كانا على معرفة بالبيبليوغرافيا اليونانية, من مصادر أصلية بالنسبة للنص اللاتيني, و من خلال ترجمات بالنسبة لتاريخ الرازي. كما أنها لم تتأثر إلا قليلا بالإخباريات المصرية, و هي بالتالي مناقضة تماما لنظيراتها الامازيغية التي ليست في نهاية الأمر سوى تراث شفهي تناقلته الأجيال في قبائل المغرب الأقصى.
“أخبار مجموعة” هو النموذج الحي لهذه الإخباريات الأمازيغية. يعود تأليفها إلى حوالي عام 1004م, و تسرد في مجموع غير متناسق قصص مغامرات عاشها أجدادٌ مغاربة  حين نزولهم إلى الضفة الأندلسية خلال القرن الثامن الميلادي. جمَّل الرواة هذه الإنجازات و بالغوا فيها من جيل إلى آخر بشكل أصبح معه هؤلاء المغامرون أو مرتزقو الفعل, و ربما الفكر أيضا, الذين تدخلوا في الصراعات بين أنصار التثليث و دعاة التوحيد, أبطالا أسطوريين. و بعد التأويل التاريخي الذي تبناه المصريون و كُتاب الإصلاح المُضاد من بعدهم, كان من السهل على المؤرخين و المتخصصين المعاصرين ربط هذه التحركات الفردية بالأحداث الكبرى “للمعجزة”. لقد تحولوا إلى شخصيات تاريخية لا تشبه أبدا الشخصيات الأصلية.
هكذا نفهمُ لماذا تتركُ قراءة هذه الإخباريات رجلَ العِلمِ مشدوها مستغربا. فالهوة عميقة ليس فقط  بين الإخباريات النصرانية و المسلمة, أو الإسبانية و الأمازيغية, فالأحداث لا تتطابق حتى بين الإخباريات التي تقتسم نفس اللغة. و إن كانت الإخباريات العربية الأكثر إسهابا من نظيراتها اللاتينية, إلا أن كليهما مليئتان بالأخطاء و محفوفتان بالتناقضات و تسردان روايات من وحي الخيال, حتى نكاد نجد في كل مخطوط رواية مختلفة. 

لقد أقر جميع المؤرخين بهذه العيوب, لكن لا أحد بينهم حسب علمنا اتبع نصائح المؤرخ الألماني فليكس داين Felix Dahnالذي أبدى في القرن19 هذه الملاحظة: “قد يكون لوذريق آخر ملكٍ لطليطلة, لكن من المُؤكد أننا لا نعرف عنه سوى اسمه القوطي” (23). و كأن المتخصصين, بمن فيهم المعاصرين, رفضوا الاعتراف بأن عِلمهم الذي نالوه بعد جُهدٍ و عناء لا يُسمن و لا يُغني من جوع. في عام 1892, تصدى إيدواردو سافيدرا بكل صراحة لهذا الاستنتاج المنطقي و القاسي: “تعُجُّ الإخباريات بالمبالغات و التناقضات و المغالطات, لكن إذا كنا لهذه الأسباب سنُغلق الباب أمام دراسة مرحلة ما, مُحتقرين ما رواه لنا عنها الأولون, لبقيت صفحات مهمة للغاية من التاريخ الإنساني بيضاء” (24). مُتعللين بهذه الحجة, تهافت الكُتاب على تلطيخ هذه الصفحات البيضاء. مع ذلك, و  بمرور الوقت أقصى المؤرخون المعاصرون أكثر المغالطات وضوحا, و أقصى الخرافات جموحا, و أكثر المفارقات غرابةَ. لكنهم لم يجرؤوا أبدا على المس بلب الخرافة, فتكررت في أعمالهم تناقضات المخطوطات القديمة, كما وضحنا في الفصل السابق.
بإمكاننا الآن تجميع الإخباريات في مجموعات مستقلة , ليس حسب كُتابها أو اللغة التي كُتبت بها, و إنما وِفق أصلولها: 
1-      الإخباريات المصرية: تنتمي للقرن التاسع الميلادي, لكنها تعكس أحيانا مفاهيم سابقة لتاريخ تأليفها. تجمع عناصر الخرافة التي بدأت في الانتشار في إسبانيا. من وجهة نظرنا, الإخباريات المعنية ببحثنا هي:أ‌-        إخبارية حول تاريخ فتح مصر من طرف العرب. شكلت مصدر إلهام للإخباريات التي اهتمت بالفتوحات اللاحقة. صاحبها هو المُؤلِف المصري ابن عبد الحكم, المُتوفى عام 871م. الروايات التراثية الواردة بهذه الإخبارية تلقفها كُتاب أمازيغ كابن القوطية و عرب كابن عذارى و المقري…إلخ.ب‌-    “التاريخ” لابن حبيب, و هو عالم دين إسباني مسلم, توفي عام 835م. لقد برهن العلامة الهولندي دوزي أن الكاتب الحقيقي لهذا التاريخ كان تلميذه  ابن أبي الرقاع الذي خلط عِلمه بتعاليم مُعلمه. من خلال بعض الأحداث التي تذكرها الإخبارية –كالتهديد الذي كانت تمثله ثورة ابن حفصون على قرطبة- يمكن تحديد تاريخ كتابتها في عام 891.ت‌-    إخبارية “أحاديث الإمامة و السياسة”, و هي عبارة عن روايات تعالج الشؤون الروحية و الدنيوية. ظلت تُنسبُ لفترة طويلة إلى المُؤلِف المعروف ابن قتيبة (828 – 889), غير أن العلامة دوزي أثبت أنها أٌلفت عام م1062. يحمل هذا الكتاب نفس الروح الخيالية للإخباريات السابقة.
من وجهة نظر توثيقية محضة, لا تحظى هذه الإخباريات و لا تتمتع اليوم بأدنى سلطة علمية. تقتصر أهميتها على المساعدة في إعادة تركيب جذور خرافة انتشار الإسلام  عبر العالم. بالنسبة لباقي الإخباريات يمكن تصنيفها حسب ترتيب كرونولوجي على النحو التالي:
2-      الإخباريات اللاتينية لمؤرخين إسبان عاشوا في القرنين التاسع و العاشر.
3-      الإخباريات الأندلسية و قد أٌلفت في القرن العاشر,
4-     الإخباريات الأمازيغية التي تعود للقرن الحادي عشر ميلادي. أما بالنسبة للإخباريات التي جاءت بعد هذا القرن فالوحيدة بينها التي تستحق المطالعة باهتمام هي أعمال ابن خلدون (1332- 1406), و هو مؤرخ تونسي ذو أصول أندلسية.
في الجزء القادم سنُقدم هذه الإخباريات و نَنقُد مصادرها. و نظرا لأهميتها سنقوم بدراسة نقدية ل”الإخبارية اللاتينية المجهولة” المنسوبة للأسقف إيزيدورو الباجي.لو استبعدنا الإخباريات المصرية و النصوص الخرافية التي خلَّفتها, سنُلاحظُ أن الإخباريات الجديرة ببعض الاعتبار معدودة على رؤوس الأصابع.
في عام1950, كتب المؤرخ الفرنسي ليفي بروفنسال: “تُقدِّمُ الإخباريات العربية تفاصيل أكثر من نظيراتها النصرانية عن حكم لوذريق, آخر ملك لطليطلة. كلتاهما دُوِنتًا بعد القرن الثامن بكثير و الروايات التي تقدمها لنا مشكوك في صحتها” (25).
هذه الملاحظة البارزة و الصادرة عن مؤرخ يحظى بسلطة علمية كبيرة, رغم عجزه التخلص من خرافة الغزو, توضح لنا المكانة العلمية لهذه المخطوطات. قيمتها كوثيقة تاريخية ضعيفة جدا. من المخاطرة الاعتماد عليها لإعادة تركيب أحداث القرن الثامن. مع ذلك, من أجل استخلاص بعض الفائدة منها سنستعمل طريقتين نقديتين مختلفتين: الأولى تنبني على دراسة المناخ الذي كُتبت فيه الإخباريات, و من خلالها يمكن استخلاص جذور الخرافة و الاقتراب من الأحداث الحقيقية, و الثانية تهدف لإعادة تكوين السياق التاريخي, لهذا من الضروري وضع إطار للأحداث المرتبطة بالتطور العام للأفكار/القوة التي كانت مهيمنة آنذاك.

المصادر : كتاب Ignacio Olague إيغناسيو أولاغي, La revolucion islamica en occidente (الثورة الإسلامية في الغرب).منشورات مؤسسة خوان مارش. وادي الرملة. Fundacion Juan March. Guadarrama / موقع إسبانيا بالعربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *