متفرقات

توسان لوفرتور.. عبد أفريقي انتصر على فرنسا ومنح هاييتي الاستقلال

“بالإطاحة بي، لم تفعل أكثر من قطع جذع شجرة الحرية السوداء في سان دومينيك. إنها ستعود لتنمو من الجذور، لأنها عديدة وعميقة” *توسان لوفرتور

ألهم توسان لوفرتور والثورة الهايتية الملايين من الأحرار والمستعبدين المنحدرين من أصل أفريقي للبحث عن الحرية والمساواة في جميع أنحاء العالم الأطلسي، فالرجل الذي ولد في قيود العبودية وقرر الثورة عليها، لم يفعل ذلك فقط من أجل نفسه، بل من أجل أمته بأكملها.

توسان لوفرتور.. الثقافة تكسر قيد العبودية

وُلد لوفرتور في العبودية في 20 مايو (أيار) 1743 في مستعمرة سان دومينيك الفرنسية، التي تقع في الجزء الغربي من جزيرة هيسبانيولا، وكان الابن الأكبر لغاو جينون، وهو أمير أفريقي أسره تجار الرقيق. على عكس الآلاف من العبيد، كان لوفرتور محظوظًا بأبيه الروحي القس سيمون بابتيست، الذي علمه القراءة والكتابة.

أعجب بايون دي ليبرتاد سيد لوفرتور ومالك مزرعة بريدا التي ولد فيها لوفرتور بالشاب الصغير، الذي أظهر ثقافة ووعيًا لم يقابلهما دي ليبرتاد في عبد من قبل، لذلك سمح له بالدخول إلى مكتبته الشخصية، وقراءة ما يريده من الكتب.

P0031 image0003
صورة لتوسان لوفرتور على ظهر الخيل
مصدر الصورة: slavery and remembrance

بحلول العشرين من عمره، كان لوفرتور يتحدث الفرنسية والكريولية وبعض اللاتينية، كما اكتسب سمعة بصفته فارسًا ماهرًا، كذلك علمه والده الكثير عن النباتات الطبية والأعشاب. ليستطيع توسان لوفرتور بفضل شخصيته وكاريزميته أن يحصل على حريته من دي ليبرتاد مع استمراره في إدارة أعمال أسرة مالكه السابق، والعمل سائقًا وراعيًا لشئون المزرعة.

استقر لوفرتور في مزرعة بريدا يدير شئونها وتزوج وأنجب ثلاثة أولاد، ورغم أنه كان ساخطًا على نظام العبودية على الجزيرة، فقد كان مدركًا أيضًا أنه كان محظوظًا بمالكه الذي استطاع أن يحصل منه على حريته في النهاية، ولم يكن مصيره مثل مصير العبيد الذين شكلوا 90% من سكان الجزيرة، الذين عاشوا في الأصفاد، وكان متوسط سنوات حياتهم 21 عامًا فقط، وكل من كانت تسول له نفسه بالهرب أو التمرد كان يتعرض للتعذيب والتشويه وحتى فقء العين!

كانت العبيد تغلي وتتأهب للثورة على ملاك المزارع، تلك المزارع التي جعلت سان دومينيك تعرف بـ”لؤلؤة الكاريبي”؛ إذ بلغ إنتاج المستعمرة الفرنسية نحو 40% من السكر و60% من القهوة التي تستهلكها أوروبا. فيما نشرت الثورة الفرنسية التي قامت في 1789 الحماسة لشتى البقاع، وجزيرة هيسبانيولا لم تكن استثناء. لذلك حينما أتت “ليلة النيران” في 22 أغسطس (آب) 1791، تمرد العبيد وأضرموا النار في المزارع والحقول وقتلوا السادة البيض، كان مصير توسان لوفرتور الذي كان حانقًا على الوضع، ومصير أمة بأكملها على وشك التغير، للأبد.

الثورة الهايتية
رسم توضيحي يصور القتال بين القوات الفرنسية والقوات الهايتية خلال الثورة الهايتية. من “تاريخ نابليون”، بقلم م. دي نورفين، 1839.

كل يوم كانت تزداد رغبة لوفرتور في الانضمام لثورة العبيد، رغم أنه حر بذاته، لكنه كان يعلم أن ما يحدث لا يمت للإنسانية بصلة، وأنه يجب تغيير الوضع القائم، لذلك في نهاية الأمر، قرر إرسال زوجته وأبنائه إلى النصف الآخر من الجزيرة، والذي كان مستعمرة إسبانية، وأمَّن هروب مالكه السابق ورئيسه في العمل دي ليبرتاد وزوجته عبر قارب إلى الولايات المتحدة. وهكذا تفرغ لوفرتور للثورة، وأصبح مستعدًّا لإحداث التغيير، والذي في نهاية الأمر، ألهم كل العبيد في كل المستعمرات وكل البلدان التي أقرت فيها العبودية.

طالع أيضا: البشرات.. ثورة في إقليم صغير ردت عليه أوروبا بحملة صليبيه ومذبحة للمسلمين

توسان لوفرتور.. الجنرال العام “الحكيم”

واجه الأفارقة المستعبدون في سان دومينيك نظام المزارع القاسي والوحشي. هرب بعض الأفارقة من المزارع وشكلوا مجتمعات المارون، حيث عاش العبيد الهاربون في مجتمع بثقافة خاصة، وحكومة وحتى جيش خاص بهم، وهناك في هذه المجتمعات التي لم تبصرها أعين المستعمر الأبيض جرى تنظيم المقاومة. في بدايتها المباشرة عام 1791، كان توسان مترددًا في الانضمام إلى التمرد في المقاطعة الشمالية، لكن في النهاية رأى توسان لوفرتور فرصة في تمرد العبيد وانضم إلى الكفاح من أجل التحرر من القيود.

دخل لوفرتور الحرب بصفته طبيبًا، مستندًا إلى خبرته في النباتات والأعشاب الطبية، لكنه سرعان ما ميَّز نفسه بأنه صاحب تكتيك ذكي وقائد إستراتيجي يتمتع بشخصية كاريزمية، وقبل أن يمر وقت طويل ترقى توسان لوفرتور بين رتب جيش المقاومة ليصبح جنرالًا من جنرالات المقاومة يؤخذ برأيه ويتبعه الآلاف. ففي ما يخص ساحة المعركة، كجنرال، قاد توسان لوفرتور قواته إلى الانتصار على طبقة أصحاب المزارع والآلاف من القوات الفرنسية الغازية، ليقرر في 1793 إضافة اسم لوفرتور لنفسه، حيث كان يعرف باسم توسان بريدا نسبة للمزرعة التي ولد فيها، بينما تعني لوفرتور بالفرنسية “افتتاح”، وذلك لمهارته في إيجاد أو إنشاء فتحات في خطوط العدو.

أما فيما يخص الدبلوماسية والحنكة السياسية، فقد أثبت توسان لوفرتور قدرة فاقت كل من حوله من قادة المقاومة، من خلال التنقل بين السياسات المعقدة والمتغيرة باستمرار للقوى الاستعمارية المتناحرة، نجح في صد اعتداءات أقوى دول أوروبا في ذلك الوقت (فرنسا وإسبانيا وإنجلترا)، مستخدمًا مكره الدبلوماسي للتلاعب بها بذكاء. فبدأ الأمر عندما اختارت قيادة التمرد التحالف مع إسبانيا ضد فرنسا، تبعها لوفرتور. بعد تهديد إسبانيا ومحاولات بريطانيا للسيطرة على الجزيرة، عملت فرنسا على الحفاظ على حكمها الاستعماري، وفي عام 1794 ولتأمين ولاء السكان السود، منحت فرنسا حقوق المواطنة والحرية لجميع السود داخل الإمبراطورية.

بعد قرار فرنسا تحرير العبيد، تحالف لوفرتور مع فرنسا ضد إسبانيا، ومن 1794 إلى 1802، كان توسان لوفرتور هو الزعيم السياسي والعسكري المهيمن في المستعمرة الفرنسية. تحت لقب الجنرال العام للجيش، قاد لوفرتور قوات التمرد بالتعاون مع الفرنسيين لطرد البريطانيين فأطاح جيشه بالقوات البريطانية في عام 1798، مما تسبب في خسارة أكثر من 15 ألف رجل و10 ملايين جنيه إسترليني في هذه العملية.

مع ذلك، استمر توسان في التشديد على وجود النفوذ البريطاني في سان دومينيك وخطورته كإجراء ضابط ضد التهاون الفرنسي ولتحفيز التجارة مع مستعمرة جامايكا البريطانية المجاورة. كذلك أبرم لوفرتور اتفاقية سرية مع الجيش البريطاني خففت من حصارها البحري على البضائع المستوردة.

نجح لوفرتور في الاستيلاء على نصف الجزيرة الذي يسيطر عليه الإسبان، وبحلول عام 1801، وعلى الرغم من أن سان دومينيك ظلت ظاهريًّا مستعمرة فرنسية، فإن لوفرتور كان يحكمها بوصفها دولة مستقلة، حيث صاغ دستورًا قام فيه بإلغاء العبودية وعين نفسه حاكمًا “لبقية حياته المجيدة”.

توسان لوفرتور vs نابليون.. وأول دولة مستقلة للسود

آمن توسان لوفرتور بالمساواة بين الأعراق، فلم يفرق بين أبيض أو أسود، بل فكر لوفرتور بصفته رجل دولة بمنتهى البرجماتية وتوصل إلى أنه يجب إنهاء الصراع بين سكان الجزيرة، من أجل المضي قدمًا. ولتنشيط الاقتصاد المحلي الذي مزقه الصراع، كان على توسان الاستفادة من مهاراته السياسية الكبيرة للتوفيق بين المصالح المتضاربة للأنظمة العرقية والطبقية والدينية والثقافية في سانت دومينيك. 

باسم الأخوة الجمهورية، ذهبت سياسات توسان إلى حد معاقبة أي أعمال انتقامية ضد مالكي العبيد السابقين، وذلك في مقابل إلغاء العبودية على الجزيرة، وبدأت سانت دومينيك إصلاحًا مدنيًّا قويًّا ومشروعات الأشغال العامة التي خلقت طرقًا وقنوات موسعة، وتحسين الصرف الصحي العام، لتبدأ الدولة الحديثة بالنهوض، ربما ببطء لكن على الأقل كانت على الطريق الصحيح، على الأقل بالنسبة لتوسان. لم تعجب رؤية لوفرتور جميع الأطراف، فكان البيض يتطلعون إلى فرنسا لقمع الغالبية العظمى من السود، ومن ناحية أخرى، أراد العديد من القادة السود طرد جميع الأوروبيين وتقسيم المزارع.

على الجانب الآخر من العالم، في فرنسا، كان نابليون بونابرت قد وافق على منصب توسان لوفرتور، لكنه عده عقبة أمام استعادة سان دومينيك بوصفها مستعمرة مربحة. عرف توسان أن بونابرت يحتقر السود ويخطط لإعادة العبودية، كما كان يدرك أيضًا أن بونابرت سيسعى لمهاجمة الجزيرة عندما يتصالح مع بريطانيا، وهو ما حدث بالفعل.

بدأ الغزو الفرنسي بقيادة الجنرال تشارلز لوكلير في يناير (كانون الثاني) 1802، بقوة أكبر بكثير مما كان متوقعًا. انضم معظم البيض إليه؛ وبعد أسابيع قليلة من القتال العنيف، وقف العديد من قادة السود إلى جانب لوكلير أيضًا. ورغم عدم هزيمته رسميًّا على أرض المعركة، فإنه في مايو (أيار) 1802، وافق توسان رسميًّا على إلقاء سلاحه مقابل وعد لوكلير بعدم عودة العبودية.

تقاعد توسان في مزرعته وقرر الابتعاد عن الحياة السياسية، وبعد بضعة أسابيع، في يونيو (حزيران) من العام نفسه، دعاه الجنرال فرنسي، جان بابتيست برونيه، لحضور حفل زفاف، والذي كان فخًّا للإيقاع به، بالتعاون مع لوكلير وبأوامر من نابليون، الذي اشتبه في أنه يخطط لانتفاضة، جرى القبض على توسان في منزل برونيه وإرساله إلى أحد الحصون في جبال جورا الفرنسية، حيث  احتُجر واستجوب، بل جرى تعذيبه، مرارًا وتكرارًا.

توفي توسان لوفرتور بالالتهاب الرئوي يوم 7 أبريل (نيسان) 1803 في زنزانته، وعلى الرغم من وفاته قبل عام من حصول سان دومينيك على الاستقلال الكامل في عام 1804 على يد أحد قادته الذي أعاد تسميتها باسم هاييتي، فقد مهدت جهوده التي لا تعد ولا تحصى لتأسيس الدولة الثانية المستقلة في نصف الكرة الغربي بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وأول دولة مستقلة للسود.

ربما تكون سياسات توسان قد أفقدته دعم القادة من الطرفين، وأنه لو لم يكن مؤمنًا بمبادئ المساواة بين الجميع كانت الأمور ستنتهي بشكل مختلف، لكن في جميع الأحوال، لا يسع أي أحد سوى احترام محاولته لتأسيس دولة لا تفرقة فيها بين المواطنين بسبب لون بشرتهم، الأمر الذي فشلت فيه العديد من الدول حتى يومنا هذا.

وكالات / إسبانيا بالعربي.

أخبار جوجل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *