من أعلام الأندلس.. ابن عبدون اليابري شاعر بني الأفطس

أخبار إسبانيا بالعربي – هو أبو محمد عبد المجيد بن عبد اللّه بن عبدون الفهري اليابري، من يابره Évora غربي بطليوس، وهي اليوم مدينة برتغالية حدودية مع مدينة بطليوس الإسبانية.

عنى أبوه بتربيته، و طمحت نفسه إلى التلمذة على أعلام العربية من مثل الأعلم الشنتمري المتوفي سنة 476 هجرية و عبد الملك بن سراج المتوفي سنة 486 هجرية و أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي المتوفي سنة 494 هجرية.

كان ابن عبدون عالما بالخبر و الأثر و معاني الحديث و أن الناس أخذوا عنه. و استيقظت ملكته الشعرية مبكرة، فمدح المتوكل عمر بن المظفر أمير بطليوس الذي كان كاتبا شاعرا مع شجاعة و فروسية، و كان مثل أبيه ملاذا لأهل الأدب و الشعر، و كانت إمارته تشمل مدن يابرة و شنترين و أشبونه إلى المحيط.

أعجب المتوكل بالشاعر ابن عبدون و اتّخذه جليسا و رفيقا له في زياراته لمدن إمارته، و أسبغ عليه من الود حللا ضافية، جعلته يلهج بمديحه و يقصر شعره عليه.

بقي الحال على ما عليه بين الأمير المتوكل و الشاعر ابن عبدون الى أن تولى المرابطون حكم الاندلس، فدخلوا بطليوس و قاتلهم المتوكل، و قتل هو و ابناه: الفضل و العباس فرثاه ابن عبدون، ورثى دولته برائية المشهورة.

قيل ان ابن عبدون كان يكتب للمتوكل أمير بطليوس ، ومن بعد كتب للأمير سير بن أبي بكر بن تاشفين الذي ولى إشبيلية بعد استنزال المعتمد منها مدة طويلة، و يذكر له رسالة كتب بها عنه إلى سلطان المرابطين يوسف بن تاشفين بفتح مدينة شنترين، و يقول المراكشي إن ابن عبدون كتب ليوسف بن تاشفين أو لابنه لا يدري و الصحيح أنه إنما كتب لابنه على بعد سير بن أبي بكر.

و يؤكد ذلك قول المراكشي في موضع آخر: «لم يزل أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس، و صرف عنايته إلى ذلك حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك» ثم يعّددهم و يذكر من بينهم أبا محمد عبد المجيد بن عبدون. و يبدو أنه ظل كاتبا عنده إلى آخر حياته.

انصرف ابن عبدون إلى يابرة لزيارة من له بها، فتوفي فيها سنة 529 للهجرة. و يشيد ابن بسام و الفتح بن خاقان و كل من ترجموا له بأشعاره، و خاصة برائيته التي رثى فيها دولة المتوكل ببطليوس و قد نالت شهرة واسعة مما جعل كثيرين ممن ترجموا له ينشدونها في ترجمته، و عنى بشرحها عبد الملك بن عبد اللّه الشلبي من أدباء القرن السابع الهجري فشرحها.

و نشرها مع شرحها دوزي ثم طبعت مع الشرح بالقاهرة، و هو فيها يسوق العبرة بمن ماتوا و اندثروا من عظماء الأمم و حكامها الكبار و دولها الغابرة و حيواناتها الفاتكة و طيورها الجارحة، يقول ابن بسام: «اقتفي فيها أبو محمد أثر فحول القدماء من ضربهم الأمثال في التأبين و الرثاء بالملوك الأعزة و بالوعول الممتنعة في قلل الجبال و الأسود الخادرة في الغياض و بالنسور و العقبان و الحيّات في طول الأعمار» . و هو يستهلها بقوله:

الدّهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح و الصّور
أنهاك أنهاك-لا آلوك موعظة- عن نومة بين ناب اللّيث و الظّفر
ما للّيالي أقال اللّه عثرتنا من الليالي و خانتها يد الغير
في كل حين لها في كلّ جارحة منا جراح و إن زاغت عن النّظر
تسرّ بالشيء لكن كي تغرّ به كالأيم ثار إلى الجاني من الزّهر

و هو يتحدث عن الدهر و أنه دائما يرسل فواجعه على المحسوس و ما وراء المحسوس، ففيم الحزن على من يموتون، و هم ليسوا إلا أشباحا و صورا، و يقول إنني لا أقصّر في وعظك و نهيك عن الاستنامة إلى الدهر، و هو قد أنشب فيك نابه و ظفره.

و يدعو اللّه أن يقيلنا و ينقذنا من عثرات الليالي و أن يسلط عليها الأحداث حتى تنهكها و لا تبقى فيها بقية، إذ في كل حين تصيبنا في عضو منا عزيز علينا بجراح، منها ما نراه، و منها ما يزيغ عن البصر، و إنها إن سرّت بشيء-و هيهات-فلكي تخدعنا به، بل لكي تلسعنا من خلاله اللسعة القاضية، كالأفعى المختبئة في الزهر تلسع يد قاطفه اللسعة السامة المميتة.

و يأخذ في العظة بذكر من أبادتهم الليالي و الأيام من الدول العظيمة منشدا:

كم دولة وليت بالنّصر خدمتها لم تبق منها-و سل دنياك-من خبر
هوت بدارا و فلّت غرب قاتله و كان عضبا على الأملاك ذا أثر
و استرجعت من بنى ساسان ما وهبت و لم تدع لبنى يونان من أثر
و أتبعت أختها طسما و عاد على عاد و جرهم منها ناقض المرر
و مزّقت سبأ في كل قاصية فما التقى رائح منهم بمبتكر

و هو يقول: دول كثيرة أتاحت الليالي لها الظفر و الرفعة، ثم عادت فهوت بها من حالق، هوت بدارا ملك الفرس، فقتله الإسكندر المقدوني، و لم تلبث أن هدّت منه، و كان سيفا قاطعا ساطعا فثلّمته و حطمته. و قد استرجعت من بني ساسان ملوك الفرس كل ما وهبتهم من عز و مجد، و لم تدع لليونانيين شعب الإسكندر من أثر كأن لم يكونوا شيئا مذكورا.

و بالمثل صنعت بقبيلتي طسم و أختها جديس في اليمامة، و كرّ الدهر على عاد و جرهم نكباته حتى محاهما محوا، و مزقت الليالي سبأ كل ممزق، فتفرق أهلها في الأرض و لم يلتق منهم رائح بغاد مبكر. و يمضي ابن عبدون في الحديث عمن أهلكتهم الليالي من أعاظم العرب في الجاهلية و الإسلام مشيرا معهم إلى كثير من الأحداث في العصر الجاهلي و صدر الإسلام و العصرين الأموي و العباسي مما يدل بوضوح على اتساع ثقافته و كيف يتحول التاريخ إلى شعر و فن، ثم يخاطب المتوكل عمر و آباءه بنى المظفر أمراء بطليوس:

بني المظفّر و الأيام ما برحت مراحلا و الورى منها على سفر
سحقا ليومكم يوما و لا حملت بمثله ليلة في مقبل العمر
من للأسرّة أو من للأعنّة أو من للأسنّة يهديها إلى الثّغر
ويح السماح و ويح البأس لو سلما و احسرة الدّين و الدنيا على عمر

و هو يقول لبني المظفر بعد أن عدد لهم ما أبادته الليالي من الدول و العظماء تلك هي الأيام مراحل، و ما أشبه الناس فيها بقوافل راحلة إلى عالم الموت و الفناء، و يقول:

سحقا و بعدا لليوم الذي زالت فيه دولتكم و لا حملت بمثله ليلة تعسة من الليالي. و يبكيهم لعرش بطليوس و خيلها العادية و سيوفها الباترة، و يتوجع للسماح و للشجاعة، و يتحسر على ما خسر الدين من جهاد المتوكل للأعداء و خسرت الدنيا من مجده و أبهة إمارته.

و المرثية تعد من فرائد الشعر الأندلسي، بل الشعر العربي بعامة، و بدون ريب يعدّ ابن عبدون من أفذاذ الشعراء الأندلسيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *