ابن مدينة الزهراء بقرطبة..الذي قالت عنه دائرة المعارف البريطانية أنه أعظم من ألّف في الجراحة
عرف الغرب أطباء وفلاسفة مسلمين على قدر من الشهرة والمكانة مثل الرازي ومسكويه وابن النفيس والبغدادي والدخواري وابن رشد وغيرهم، وانبهروا واستفادوا مما تركوه من آثار في مجال العلوم الطبية، على أن واحدا من أطباء الأندلس في غرب العالم الإسلامي كان لتجربته الطبية، ومؤلفاته، بل واختراعاته في هذا المجال، الأثر الكبير في انفتاح الأوروبيين على مجالات الطب والجراحة العربية، وعلى فتح مزيد من الأبواب الموصدة في هذا المجال منذ ألف عام مضت، فكانت حياته ومنجزه ثورة علمية بمقاييس ذلك الزمن.
ذلك العبقري الذي لُقّب ولا يزال في الغرب باسم “Abulcasis” صاحب أكثر من 30 مؤلفا “باللغة العربية” في الطبّ وأفخم كتبه كتابه في الجراحة “التصريف لمن عجز عن التأليف” والذي كان مرجعا في الجراحة لمدة 900 سنة هو أبو القاسم الزهراوي الطبيب الذي توفي قبل ألف عام خلت، فمن هو هذا الطبيب العربي الأندلسي؟ وما منجزه الحضاري الذي أكسبه هذه الشهرة في العالمين الإسلامي والغربي؟ وهل بقي من هذا المنجز الطبي شيء حتى يومنا هذا؟
وُلد أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي الأنصاري في مدينة الزهراء، العاصمة الأندلسية الجديدة على مقربة من مدينة قرطبة، المدينة أنشأها أعظم خلفاء بني أمية في الأندلس آنذاك الأمير عبد الرحمن الناصر الذي بقي في الحكم خمسين عاما متواصلة، في هذه المدينة التي أرادها الناصر درة الأندلس للإدارة والحكم والثقافة، وُلد أبو القاسم فنُسب إليها، في العام الأول من افتتاحها سنة 325هـ/936م.
كان من اللافت والغريب أن سيرة الزهراوي في حياة معاصريه لم تكن بالأهمية التي يتوسعون فيها للحديث عنه، وأن هذا الطبيب العبقري ذا الخبرة الكبيرة لم يكن من حاشية البلاط الأموي في الأندلس طبيبا لهم أو مقربا منهم، فضلا عمن دونهم من القادة وعِلية القوم، وأنه كان طبيب الفقراء بامتياز!
وكانت الإشارة الأولى التي جاءتنا عنه عن طريق العلامة الفقيه والفيلسوف ابن حزم الأندلسي الذي رأى الزهراوي في أخريات حياته شيخا كبيرا، وهو شاب يافع، كما لاحظ عبقريته الطبية، وأنه أحد أبرز أعلام الأندلس في عصره في مجاله، ليقول فيه وفي كتابه “التصريف”: “وكتاب التصريف لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي، وقد أدركناه وشاهدناه، ولئن قلنا إنه لم يُؤلَّف في الطب أجمع منه، ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنُصدّقن”.
وبعد قرن أو أكثر من وفاته بدأت شهرته تتوسع في آفاق العالم الإسلامي، من الأندلس إلى المشرق، فقال فيه مؤرخ الأطباء في المشرق ابن أبي أُصيبعة: “خلف بن عباس الزهراوي كان طبيبا فاضلا خبيرا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه المعروف بالزهراوي، وله من الكتب “كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف”، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تام في معناه
عاش الزهراوي طبيبا فقيرا على ما يبدو، متقشفا، محبا لطلبة الطب وصنعته، واصفا لهم في مقدمة كتابه بـ “أبنائه”، باذلا وقته ومجهوده لمساعدة الفقراء والمرضى، وقد أمدنا هذا الكتاب العظيم “التصريف لمن عجز عن التأليف” بثلاثين مقالة في العلوم الطبية والتشريح والصيدلة وصناعة الأدوية، وأهمها المقالة الثلاثون في علم الجراحة التي تعد قمة التطور والثورة الطبية التي ولجها الزهراوي في عصره.
فتوحات الزهراوي الباهرة!
كانت فلسفة الزهراوي الطبية تقوم على أن الطبيب الماهر لا يكون طبيبا إلا بعد معرفة تامة، ودراسة وافية لعلم التشريح، يقول: “لأن صناعة الطب طويلة، وينبغي لصاحبها أن يرتاضَ قبل ذلك في علم التشريح لأنه من لم يكن عالما بما ذكرنا من التشريح، لم يخلُ أن يقع في خطأ يقتل الناس به
وكان اهتمامه بعلم التشريح ودراسته سببا في الفتح الكبير الذي تحقق على يديه في علم الجراحة فضلا عن اختراعاته للأدوات الجراحية، وكان من الغريب واللافت أن علم التشريح كان علما محتقرا من قبله[5]، فجاء الزهراوي ليبدد هذه الأوهام، ويكون من أوائل الأطباء الذين يجرون العمليات الجراحية بأيديهم، فقد كان الأطباء من قبله يوكلون هذه المهمة لعبيدهم أو إمائه!
وقد أكسبته العمليات الجراحية التي قام بها بنفسه على مدار نصف قرن أو أكثر خبرة كبيرة للغاية، دوّن كثيرا منها في كتابه “التصريف” الذي ألّفه على مدار نصف قرن أيضا، فكان الزهراوي أول من استحدث رسوم الأعضاء والهيكل العظمي في كتبه، وأول من رسم الآلات وبيّن طريقة استعمالها في المؤلفات الطبية، وأورد منها في كتابه مرسوما مئتي شكل.
كان الزهراوي أيضا أول من وصف طريقة إخراج الأجسام الأجنبية من داخل المريء بواسطة إسفنجة متصلة بخارج الفم بخيط متين، وهو أول من أصلح طرز عمليات البتر، وكان الأطباء قبله يبترون القسم المعتلّ فقط، أما هو فقد أوصى بالقطع في الأنسجة السالمة عن بُعد من الأنسجة المريضة كما هي الطريقة المتبعة اليوم، كما بحث في الالتهابات المتقيحة، فأوصى بخزع الخُراجات القريبة من المفاصل في بادئ ظهورها، كما أوصى باستئصال جميع الأجزاء المريضة في الالتهابات العظمية
كان الزهراوي الأندلسي أيضا أول من استعمل ربط الشريان لإيقاف النزيف قبل الفرنسي “أمبروز باريه” الذي تُنسب إليه هذه العملية ظلما وهضما للزهراوي، وهو أول من استعمل “السنارة” الطبية في استخراج البوليبس أو الزوائد الورمية، وكان أول من وصف العمليات الجراحية في كتابه وطريقة إجرائها والاحتياطات اللازمة لها، وفي كل فقرة كان يضيف الطرق التي يُجري بها عملياته وملاحظاته إلى معلوماته السابقة
استخدم الزهراوي وسائل عالية لتعقيم الجروح بالشراب والزيت، أو بالخل والزيت، وكذلك الكبريت، ودوّن طريقة تعقيم المريض في فصول وأبواب كثيرة من كتابه التصريف، فنرى في ذلك إرساء لقواعد تعقيم الجروح بالشراب الذي يحتوي على الكحول، وهو ما نستخدمه حتى الآن، بالإضافة إلى الخل والزيت “مركبات السلفا”. بل إن الزهراوي تكلم عن طب الأسنان وإمكانية صناعة أسنان جديدة من عظام البقر وتركيبها في فم المريض، يقول: “وقد يُنحتُ عظم من عظام البقر، فيُصنع منه كهيئة الضرس، ويُجعل في الموضع الذي ذهب من الضرس، ويُشد كما قلنا، فيبقى ويستمتع بذلك إن شاء الله”، وهو بهذا الوصف يعد أول طبيب مسلم تكلم عن زراعة الأسنان قبل ألف عام من الآن!
بل إن الزهراوي كان أول من أدخل خيوط الحرير في ربط الشرايين بعد الجراحة، وهو أول من أدخل أوتار العود فيها، وهي مصنوعة من جدار أمعاء الغنم، وهو ما يتخذ منه الخيوط الجراحية في الوقت الحاضر، وقد أجرى الزهراوي عمليات جراحية ناجحة لزوائد لحمية الأنف، واللوز، وإزالة الأورام المختلفة بالحنجرة، وفتحة القصبة الهوائية، وإصلاح صدور الرجال التي تشبه النساء، وإصلاح التضخم الزائد لصدر المرأة، وعلاج السرطان، والاستسقاء، وعلاج الأطفال الذين ولدوا بدون مجرى بولي خارجي ظاهر أو مجرى ضيق أو من كان مجراهم في غير موضعه، ودوّنه بتفاصيله كافة في كتبه
والحق أن ما قام به الزهراوي وما اكتشفه من العلاجات والعمليات الجراحية المعقّدة والدقيقة، والأدوات الجراحية في مجال الأجهزة الطبية، لا يمكن أن يكفيه مقال مختصر مثل هذا، وبسبب هذه الخبرة الواسعة، والاستكشافات المذهلة التي اتخذت المنهج العلمي القائم على الاستقراء والتجربة والملاحظة والجراحة باليد، والعمل المضني الذي استمر نصف قرن في مجال الطب، وذلك قبل ألف عام من الآن، ليعد أمرا باهرا يستحق فيه الزهراوي هذه المكانة الكبيرة التي اعتُبر فيها أعظم أساتذة الجراحة في تاريخ الحضارة الإسلامية، ليلقى الرجل ربه في مدينته الأثيرة قرطبة في عام 404هـ/1013م.
المصدر : الجزيرة / إسبانيا بالعربي.