من عبق التاريخثقافة

الموشحات والأزجال الأندلسية وأثرها في شعر التروبادور


أخبار إسبانيا بالعربي / في مطلع القرن الحادي عشر ظهرت جماعات التروبادور في جنوب فرنسا ثم في ألمانيا، يتغنون بأوزان جديدة من الشعر استمدوها من الموشحات والأزجال الأندلسية، وألحان هي صدى ما تلقنته بعثات تلك البلاد في قرطبة من مدرسة زرياب وتلاميذه، وقد شابهت في أغراضها أغراض الموشحات وفي طليعتها الغزل والتغني بجمال الطبيعة والمدح والحماسة.

حيث شهدت أوروبا لأول مرة مظهر الفنانين المتجولين في الطرقات، وهم ينشدون أغانيهم ويرددون ملاحم البطولة وما نقلوه عن عرب الأندلس من قصص ألف ليلة وليلة، وسندباد، ويوسف وزليخة وغيرها.

والتروبادور هو شاعر أو موسيقي عاش في القرون الوسطى كان يؤلف أشعارا ويغنيها، أمام الملوك والسلاطين في أوروبا
ويقال أن تروبادور مشتقة من الكلمتين العربيّتين “طرب” و”دور”، أي أن الشراء كانوا يدورون بأغانيهم على القصور.

الموشحات والأزجال الأندلسية وأثرها في شعر التروبادور

كيف كانت البداية وكيف خرج التروبادور من قصور الملوك والبلاط إلى الشوارع والأزقة؟

كان لا بد من ايجاد بديل للشعر المحصور موضوعاته داخل نطاق الكنيسة إلى مجالات أوسع وأعمق فوجدوا ضالتهم في الشعر الأندلسيّ، خاصة في نظام الموشح والزجل

يشير الباحث محمد عباسة إلى أن الشعر الأوربي لم يعرف نظام القافية إلا في البدايات الأولى من القرن الثاني عشر مع التروبادور، كما لم يعرف العهدان اللاتيني والإغريقي هذا النظام، ومع أن النقد الغربي يعتقد جازما أن شعراء التروبادور تأثروا بأوفيديوس، إلا أن ذلك يدخل في باب المركزة غير المؤسسة، لأن بروفيديوس نفسه لم يعرف القصيدة المقفاة ولا توجد في كتبه قصيده واحدة من هذا النوع.

ينسحب هذا على الشعر الروماني والأوربي إلى غاية القرن الثاني عشر مع ظهور الشعر الأوكسيتاني في جنوب فرنسا. ويعدّ غيوم التاسع (1074م – 1127م) كونت مدينة بواتييه وذوق أكيتانيا أول شاعر أدخل القافية إلى الشعر الأوربي، وقد تجسدت في ثلاثة نصوص شعرية.

طالع أيضا دبلوماسي من البيرو يكتب: مساهمة اللغة العربية في اللغة الإسبانية

إن هذا التثوير المفارق للممارسات الشعرية انعكس على عدة أصعدة، وخاصة البناء المعماري الذي عرف عدولات كثيرة نجد لها مجاورات واضحة في الشعر الأندلسي، سيما في الموشحات والأزجال التي كانت ذائعة أنذاك، وجزءا من الذائقة العربية. من حيث البناء فقد كان هناك تأثر بالمطالع التي عُرفت في القصيدة الأندلسية، أي أن الأشكال الاستهلالية المبتكرة في الشعر الأوربي ليست سوى امتداد للأشكال الشعرية المتاولة في الموشحات والأزجال، بداية من المطلع المكون من شطر، إلى المطلع المكون من شطرين وثلاثة أشطر أو أربعة، وهي أنواع استلهمت من الموشحات.

إضافة إلى المطلع فقد استفاد التروبادور من نظام البيت المتفاوت ومن نظام الأقفال: أربعة أشطر وقفل من شطر واحد، بيت وقفل من شطرين، خمسة أشطر وقفل من شطر واحد، كما فعل الشاعر سركامون. وقد نظموا أقفالا مركبة من ثلاثة وأربعة أشطر على غرار أبنية الشعر الأندلسي.

Screenshot 20231210 013041 Chrome
گيلهم ده پيتيوس، أشهر مغني تروبادور

لقد كتب الشاعر ماركبرو قصائد كثيرة متأثرا بمعيار الموشحات، على غرار قصيدة الزرزور التي نظمها على شاكلة إحدى موشحات أبي بكر الأبيض، إلى درجة التطابق الكلي بين النصين.

وإذا كان التروبادور غيروا قليلا في الأقفال، كما فعل غيوم التاسع، إلا أن حضور النموذج الأندلسي لا يمكن محوه أو تجاوزه لأنه بارز للعيان رغم سكوت النقد والدراسات المقارنة.

كما نجد سمات مشتركة ما بين التروبادور وشعراء الموشحات والأزجال في الأندلس كتفريق الأقفال بواسطة الطول والقصر، أو تجاوز المطالع الاستهلالية والاكتفاء بالأقفال.

”ويعتقد جماعة من الباحثين الأوربيين أن شعر التروبادور الأوكسيتاني قد تأثر في شكله المربع (القصيدة الفجرية) بالأشكال اللاتينية القديمة، محتجين في ذلك بقطعة شعرية يتيمة كتبت في حدود القرن الثامن ميلادي على الأرجح. غير أن الشكل المربع وجد في أشعار العرب قبل هذا العصر، وقد استخدمه الشعراء في الأرازيج والمسمطات.

ولعل أول من ذهب بهذا النوع من النظم إلى أبعد الحدود في بلاد الأندلس هو ابن قزمان الذي جاءت أغلب أزجاله مبنية على هذا الشكل
ويحدث أن نجد في قصائد كثيرة للتروبادور مجاورات أخرى دالة على تناصات تؤكد استفادتهم من الوشاحين الأندلسيين، وذلك بداية من التروبادور الأول الكونت غيوم التاسع.

إن كتابة القصائد باللغة الأوكسيتانية والأقفال باللاتينية، أو بلغة مبهمة يعود أساسا لتأثرهم البيّن بخيارات الوشاحين الأندلسيين الذين لجأوا إلى هذه التنويعات اللغوية لغايات وظيفية أملاها الظرف، خاصة عندما يقتضي التأسيس على مبهمات في بعض القصائد الغزلية و السياسية درءا للحرج.

images 1
حروف اللغة الأوكسيتانية

طالع أيضا “لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ”: أجمل ما قاله شعراء الأندلس في رثاء المدن المفقودة

كما أخذ هؤلاء الشعراء فكرة الخرجة من الوشاحين والزجالين، و”ترد الخرجة في الشعر الأوكسيتاني عند التروبادور بأشكال مختلفة، لكن أغلبها لم يخرج عن نطاق الشكل الأندلسي. فالخرجة عند الأندلسيين هي القفل الأخير من الموشحة أو الزجل، أما في الشعر الأوكسيتاني فقد تكون بعض الخرجات القفل الأخير من القصيدة، وبعض الآخر يأتي بعد القفل الأخير مباشرة وبالقافية نفسها”

بيد أن القصيدة الأوكسيتانية طورت الخرجة لاحقا لتصبح مختلفة قليلا عن تلك التي عرفت في الأندلس، كأن نجد قصائد بخرجتين متتاليتين، كما في قصائد غيوم التاسع الذي استحدث شكلا مغايرا عن الشكل الأندلسي.

ومن التقاطعات البنائية مسألة الشكل الحواري، المحاورات والمناظرات التي تعتمد على مبدأ التناوب في النظم: وقد نجد هذه الأشكال في كتابات ابن قزمان ورفاقه،

في حين لم يعرف الشعر الأوربي هذا النمط إلا مع التروبادور الذين قاموا بتهذيبه وتخصيص له موضوعات لم تكن متداولة في الشعر الأندلسي، ولا في الشعر العربي الذي ظهر قبل الموشحات والأزجال، مع أن الفكرة، في جوهرها، مستوحاة من النظم الأندلسي.

طالع أيضا: فتنت بأسقف كنيسة في برشلونة.. ظهور المليحة صاحبة الخمار الأسود في إسبانيا

وإذا كان التروبادور قد نظموا قصائدهم، بتدخلات لغوية ذات مستويات مختلفة، كاستعمال لهجات ومفردات أجنبية، ومنها العربية و الإيطالية القديمة والفرنسية والدارجة الإيبيرية التي كانت تتخلل لغة الأوك، فإن شعراء الأندلس ومنهم ابن قزمان، استعانوا بألفاظ أعجمية محاكاة للوشاحين والزجالين. لقد كتب الشاعر رامبو دي فاكيرا بلغات مختلفة: الأوكيستانية والإيطالية والفرنسية والغسكونية والجليقية والبرتغالية. وقد يعود ذلك، في أحيان كثيرة، إلى أصولهم التي لا علاقة لها بالأمة البروفنسية.

ثمة أيضا مجاورات أخرى يمكن تلخيصها في الاستهلال المشترك: رفيقي، خليلي، صديقي، إضافة إلى الحب الفروسي (المؤانس)، الشعر العذري، الفجريات، الشكوى، الشخوص، الكتمان، الخضوع، الوفاء، وصف الطبيعة (الموصول بالغزل)، الاستغفار، إلى غير ذلك من العلامات التي تؤكد صلة التروبادور بالشعر الأندلسي.

المصدر: كتاب الموشحات والأزجال الأندلسية وأثرها في شعر التروبادور محمد عباسة / إسبانيا بالعربي

أخبار إسبانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *